عندما دشن الشاطبي في كتابه الموافقات مرحلة جديدة في مسيرة علم أصول الفقه وُسمت بمرحلة مقاصد الشريعة، كان يستشعر حال الانسداد في القراءة النصية، تلك الحال التي حولت الأصول والفقه معاً إلى تكرارات وتبريرات لِما كان، مع عدم القدرة على المواءمة الفقهية للحياة العملية المتجددة. لقد كان يهدف من عمله هذا إلى العودة بأصول الفقه إلى الجادة التي نصبت له أصلاً، وهي درك مقاصد الشريعة العامة ومعرفة كليات النظر الشرعية، لتكون دليلاً للمجتهدين في تنزيل الأحكام عليها والقياس في ضوئها، وذلك بعد حقبة أصولية طغى عليها النظر العقلي والقياس المنطقي على أيدي فلاسفة المسلمين، فضاعت مقاصد الشريعة العليا في ثنايا المباحث العقلية الجافة التي تمددت في علم أصول الفقه لتخرجه في كثير من مباحثه عن النظر الشرعي إلى النظر العقلي. تعد المرحلة التأسيسية الحقيقية لعلم أصول الفقه تلك، التي قادها فلاسفة المتكلمين من علماء المسلمين، ولكن وبحكم اشتغالهم بالكلام غلبت عليهم نزعتهم العقلية، وطبيعتهم الفلسفية، وإلى ذلك أشار الغزالي في معرض تقديمه لعلم أصول الفقه قائلاً: «وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول»، المستصفى، 1/9 دار الكتب العلمية. فسرى بين مباحث الأصول كثير من مباحث علم الكلام، كمباحث القياس العقلي والعلل الفلسفية التي وضعت في علم أصول الفقه وضعاً زائداً عن الحاجة إليها، ثم اندمجت به، فصرنا في أصول أمام علل شرعية مستنسخة من تلك العقلية، ويلاحظ هذا بوضوح عند تعريف العلة ومراعاتها شروط العلة المنطقية، فجف النظر الأصولي الفقهي وتحول إلى الطبيعة العقلية المحضة التي تندثر معها المرونة، ولقد فطن بعض الفقهاء مبكراً إلى مشكلة القياس، فخرج الحنفية من ضيق القياس الأصولي العقلي إلى الاستحسان في عودة جديدة لمقاصد الشارع بعد أن ضاق عليهم ثوب القياس العقلي. تم التأصيل لنظرية المقاصد، وظهرت مصطلحات: جلب المصالح، ودرء المفاسد، وسد الذرائع... وغيرها مما هو في نطاق البحث المقاصدي، وأُسس لها تأسيساً نظرياً لتكون منتجة للأحكام في ضوء كليات الشريعة العامة، ولا ندعي أن هذه المباحث لم توجد سابقاً لذلك العهد، لقد وجدت ولكنها لم تحظ بالعناية التفصيلية والنظرية التي حظيت بها بعد التأسيس لعلم المقاصد على يد الشاطبي ومن تبعه بعد ذلك. التحول الخطير لكن التحول الخطير الذي اعترض سيرورة المقاصد هو تحولها عن هدفها الأساس: في العودة إلى مقاصد الشرع وعلله بغية تطوير الصناعة الفقهية، إذ تحولت من حيث هي أداة موصلة لمقصد الشارع وضعت في يد المفتي والقاضي، إلى سلطة بيد بعض الفقهاء، فغدت أكثر دفعاً لهم لتحقيق رغباتهم السلطوية، من حيث إن مساحة الحرية في قراءة النصوص أصبحت أكبر في ظل مقاصد الشريعة، فالنظر المقاصدي يحتاج في أساسه إلى الخبرة الفقهية التي ينبغي أن يتمتع بها المفتي دون غيره، حتى ومن دون الإحالة إلى آحاد النصوص في كثير من الأحيان، لأن المفتي يستطيع درك مقاصدها فوق النصية، فانقلبت المقاصد عملياً على أهدافها النظرية. ولئن كنا نعيب على تلك الحقبة الماضية أنها حقبة تخطى فيها العقل النظري حدوده، فإننا هنا أمام حقبة تجاوزنا فيها العقل النظري والشرعي على حد سواء عن طريق العقل الجزئي الذي لا يسلم من تبعات الهوا ومداخل النفس، فحدثت باسم المصالح والمفاسد تجاوزات كبرى للنصوص الشرعية، والسبب أن لا مجال هنا للاعتراض ما دام الفقهاء هم المقررون، لذلك فهم أقدر على معرفة دقائق المقاصد، وذلك لما يتمتعون به من معرفة بأسرار الشريعة من جهة، ولما لهم من سلطة منحت من قبل الله لهم، على اعتبارهم ولاة الأمر في الشأن الديني من جهة أخرى، وهنا تم التأسيس لمرحلة جديدة من مراحل السلطة الدينية ازدادت فيها شأناً وساوت في قيمتها السلطة السياسية، فهذه سلطة المجتمع التي يكلها أهل العلم وتلك سلطة الدولة التي يكلها أهل السياسة، والنكتة هنا أن الطاعة واجبة من العامة للسلطة الدينية، كما أن السلطة الدينية وعامة الناس مجتمعين مأمورون بالطاعة للسلطة السياسية، فلم تكن سلطة الفقهاء التي توسعت عاملاً إضافياً في القيام على حقوق الناس زادت في تكريس الاستبداد السياسي، لأن الأصل في وجود سلطة دينية أن تكون منافحة للسلطة السياسية وموجهة لها لرعاية المصالح العامة، ولكن حدث لعلماء الدين الإسلامي ما حدث قبل للكنيسة إبان تحالفها مع الساسة ضد الشعب فأصبحت مهمة الدين تبرير السياسة لضمان بقائهما معاً. ولا أدل على فساد هذا التحالف مما حدث في الثورات العربية، ففي الوقت الذي تطلب النصوص الشرعية منك الخروج في وجه الظالم كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ألا وإن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، يأتي الاستعمال المقاصدي السياسي ليقول بحرمة الخروج على الإمام، لما ينطوي عليه من ضرر للعامة والخاصة يتمثل في إزهاق الروح، ولا يخفى مدى الانقلاب على هذا النص بحجة المقاصد العامة التي تحكم هذا النص وغيره، ولا ينكر أن هذا النوع من التبرير كان موجوداً قبل فترة المقاصد، ولكنه وجد في المقاصد مرتعاً خصباً للتأسيس لهذه العلاقة، من خلال تجاوز النصوص الجزئية ومشاكلها الاستدلالية. حتى أنك في بعض الأحيان تجد نفسك أمام متواليات من التلفيق الغريبة تحت شعار كليات النظر والمقاصد العليا ورؤية الفقهاء العامة للأمور، فتسد الذريعة مثلاً لأنها توصل إلى مفسدة متوهمة في كثير من الأحيان، فالعبرة أن وصف المفسدة طرأ على الموضوع، وكفى به دليلاً لتترك المصلحة، ثم يسد أحياناً ما أوصل إلى هذه الذريعة أيضاً، أي ذريعة الذريعة، والحكم في تكييف الذريعة والنظر فيها متروك لأصحاب الرؤية من العلماء. ولن تعدم فكرة المقاصد -وإن كانت مجردة من النصوص في كثير من الأحيان- أن تكون مقنعة، وذلك لملامستها سطح التفكير، وهو ما يجعل موقف علماء الدين مؤيَّداً في كثير من الأحيان من قبل عامة الناس وحتى من قبل كثير من الطبقة المثقفة، فما من أمر بالشر المحض ولا هو بالخير المحض، فالقراءة الوجهية، وتسليط الضوء جزئياً يفي بغرض المخاتلة والإقناع أحياناً، مع أن الأصل أن تكون مقاصد الشريعة ضابطاً لإيقاع الاستدلال النصي ومستوعبة لجوانبه كلها. الفساد حتى إن قاعدة «درء المفاسد مقدمة على جلب المنافع التي أنتجها مشروع المقاصد» لا تسلم من النقد، فهي تشعرك بأنك أمام دين هيّاب للوقائع متحفظ في طرحه للأمور، فما من مصلحة من غير مفسدة، وقليلة هي القضايا التي ينحسم فيها الفساد نهائياً، فلا مجال هنا للحكم بمطلق هذه القاعدة مجردة من النصوص، لأن مدخل الفساد إلى كل حال موجود، فالخروج على الحكام الظلمة مصلحة ولكن القتل الحاصل فيهم مفسدة ودرء المفسدة مقدم على المصلحة، فيترك رد الظالم بناء على ذلك. وعليه، فالجهاد في سبيل الله مصلحة ولكن الموت مفسدة، فيجب أن يلغى الجهاد بحجة تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، هذا إن قسنا الموضع قياساً على طريقة فقهاء السلطان، مع يقيننا أن مصلحة زوال الظلم أكبر بكثير من مفسدة إزهاق الأرواح، وهي علة الجهاد نفسها. هذه الأمثلة هي أخطر ما أنتجه هذا الفكر التبريري الملتف على النصوص والمقاصد حتى، والتاريخ الإسلامي يعج بفتاوى في هذا السياق غلبت المصلحة فيها النص وغلبت السياسة الدينَ، فتحول الفقيه إلى مؤوِّل والنص إلى مؤوَّل لخدمة السلطان، وتحول النظر الإسلامي الديني إلى دنيوي براغماتي، تحت ذريعة مصالح مجتزأة: من قبل الاستقرار وحفظ الأوطان ودرء الفتنة وأخواتها، ولا شك في أن الدين بالنسبة للحكام يفعل ما لا تفعله ألف بندقية، ولذلك يرى ابن خلدون أن «الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جداً في عصر التراجع الفكري للمجتمعات، ويقوم بهذا الأمر موسوسون أو مجانين أو ملبسون (يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية)»، مقدمة ابن خلدون: 1/80. هذا تماماً ما فعله كثيرون من العلماء اليوم في خضم الثورات العربية، فاستمراراً لوتيرة التبرير التاريخي المصلحي، نجد الحاكم شرعياً بشرعة الأمر الواقع (التغلب) والخارجون عليه متجاوزين حدود الله الذي يمثلها الحاكم المتغلب، فالتظاهر مثلاً محرم بحسب الدكتور البوطي «لأنه مؤد لإزهاق الأرواح»، ولا بد من سد ذريعة هذا الأمر، وهو الحكم بحرمة التظاهر، من دون التطرق إلى دور الحاكم في صيانة أرواح الرعية، وفي تجاهل صارخ لحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». ولا شك في أننا نلاحظ هنا التقلب بين زوايا المصالح والمفاسد وفق الرغبة، فنحن هنا نتحدث عن مفسدة الخروج بوصفه مزهقاً للروح، ولا نتحدث عن مفسدة قتل الناس التي هي أساس في عملية القتل هذا، هذا التقليب الوجهي للمصالح والمفاسد هو جوهر عمل رجال الدين في تحقيق التوأمة بين السياسي والديني. لقد كشفت الثورات العربية عورة هذه المؤسسة الدينية بشكل فاضح وبينت مدى تأييدها السافر للأنظمة التي لم ترع حرمة لدماء المسلمين وأعراضهم من غير نكير لما تفعل، وكشفت مدى إتقانها للعبة الاستدلال الشرعي، ولست أنسى هنا مقولة أحد العلماء في وجوب طاعة المجلس الانتقالي الليبي بوصفه شرعياً بشرعة التغلب، هذه الشرعة التي نافحت شرعت الخلافة الراشدة في مزاياها، والواجب طاعته كما كانت طاعة القذافي واجبة لكونه متغلباً، ولا أدري أين هذا من مقاصد الشريعة التي نطق بها ربعي بن عامر أمام كسرى حينما قال له: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام». لقد نزل هؤلاء العلماء بفتاواهم المركبة من علياء هذه المقولة التاريخية العظيمة إلى درك مثل عامي قائل: «من يتزوج أمي أناديه بعمي»، فماذا ابقوا من الدين بعد هذا. * كاتب سوري مقيم في إنكلترا