حينما كنت في لندن مع بداية إجازة الصيف لاحظت أن هناك اهتماما فائقاً من المجتمع البريطاني بترشيد استخدام المياه، ولم أستغرب هذا الاهتمام لأن من المعلومات التي أعرفها أن العالم كله يعاني ندرة المياه، وبالذات في الدول المتقدمة. الولاياتالمتحدة تعاني ندرة المياه وتختلف كل ولاية عن الولاية الأخرى في مستوى حدة المشكلة، فمثلاً ولاية كاليفورنيا تعيد استخدام 63 في المائة من المياه المعالجة لأغراض الزراعة. ولكن بصورة عامة العالم كله يعاني ندرة المياه، ويحذر السياسيون والعلماء مراراً وتكراراً من حروب قادمة على مصادر المياه، وفي منطقتنا العربية هناك بؤر ودمامل قابلة للانفجار في أي وقت بسبب شح المياه سواء على نهر النيل أو الأنهر التي تجري في بلاد الشام وتتنافس عليها الدول العربية وإسرائيل، حتى مصادر نهري دجلة والفرات التي تنبع من تركيا وتصب في العراق وسورية عرضة للانفجار والصدام. أعود إلى بريطانيا لأتعرف على كيف عالجت بريطانيا مشكلة ندرة المياه، لأنها تجربة من التجارب التي يمكن أن تفيدنا جداً، في البداية سألت عن المصادر الرئيسة للمياه في المملكة المتحدة، فقيل لي إن أهم مصدر من مصادر المياه في بريطانيا الآن هو معالجة مياه الصرف الصحي، وهذا المصدر يحتل العناوين الرئيسة في برامج السياسيين إبّان الانتخابات على كل المستويات في المحليات أو على مستوى المملكة. واستغربت لأن بريطانيا تجري في وسطها وعلى جوانبها الأنهار الرقراقة التي تروي الإنسان والحجر والشجر، وفي مقدمتها نهر التايمز. ولكن المعلومات التي بدأت تصلني تقول إن بريطانيا متقدمة جدا في معالجة مياه الصرف الصحي معالجة أولى، وثانية، وثالثة حتى تصبح المياه صالحة لاستخدامات كثيرة في حياة المواطن البريطاني، فالمياه المعالجة تلبي كل احتياجاته في ري المحاصيل الزراعية وفي وسائل النظافة وري الحدائق العامة والخاصة، وحتى كل ألوان وأشكال العمليات الصناعية، الأكثر من هذا أن بعض المياه المعالجة يعاد ضخها مرة أخرى إلى الأنهار والأودية. الأهم من هذا وذاك تتضمن مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي نشر ثقافة البيئة النظيفة والصديقة وحماية الموارد المائية والصحة البشرية من الملوثات العضوية والكيماوية الناجمة عن النشاط البشري مثل الكربون والنتروجين. بمعنى تعتمد معالجة مياه الصرف الصحي بشكل رئيس على عملية بيولوجية ترتكز على النشاط البكتيري للقضاء على الملوثات العضوية، ما يحد من التلوث الكربوني والنتروجيني من خلال البكتيريا الموجودة بشكل طبيعي في المواد العضوية الموجودة في مياه الصرف الصحي. ولقد استحدثت الصناعة البريطانية محطات لمعالجة مياه الصرف في المنازل، وتعتمد هذه المحطات على تقنية صديقة للبيئة، ونحن هنا في السعودية لم نستفد كثيراً من معالجة مياه الصرف الصحي التي حققت تقدماً مذهلاً في الدول المتقدمة، لأن المواطن السعودي لم يشعر بالتكاليف الباهظة لإنتاج متر مكعب واحد من مياه التحلية التي توفرها الحكومة لمواطنيها بأسعار أقل ما يقال عنها إنها ""أسعار مجانية""، بينما تعد مياه الشرب في الدول الغربية غالية الثمن، فيبلغ سعر المتر المكعب من مياه الشرب في إنجلترا نحو 3.58 يورو (16 ريالاً)، وفي فرنسا نحو 3 يورو (15 ريالاً)، أمّا في ألمانيا فيرتفع إلى 5.16 يورو، أي ما يقارب 22 ريالاً. إن اهتمامنا الهائل بمشاريع تحلية مياه البحر لا نستنكره، ولكن نحن في أمس الحاجة إلى مشاريع بديلة تبرز في عناوين خطتنا التنموية المستدامة، وأهم هذه المشاريع هو معالجة مياه الصرف الصحي، لأن هذه المشاريع لا تقبل النضوب، وهي من المشاريع التي تتميز بالتدفق المستمر وحققت نجاحات وافرة في كثير من دول العالم. إن مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي من المشاريع المزدوجة التي توفر المياه الصالحة للاستخدام، وكذلك تحمي الموارد المائية والصحة البشرية من الملوثات العضوية والكيميائية الناجمة عن النشاط البشري مثل الكربون والنتروجين. إن الاهتمام بموارد المياه في جميع دول العالم بات ضرورياً جداً لحماية المجتمع من خطورة شح المياه، ولكن الواضح أننا اكتفينا بالاهتمام بمشاريع تحلية مياه البحر رغم أن التكلفة عالية جداً، ومع الأسف لم نتقدم كثيراً في مجالات جديدة من مجالات الموارد المائية، ونسمع كثيراً أن نهراً هائلاً ينام تحت أقدامنا في منطقة الربع الخالي، ولكن لم نقرأ دراسة علمية رصينة تتحدث عن حجم المياه ونوعها وإمكانات استغلالها، والمفروض ألا تضعنا وزارة الزراعة ضحية قصص فولكلورية عن نهر الربع الخالي العظيم، بل إن الموضوعية الوطنية تفرض على الوزارة الحكومية أن تكشف عن هذا النهر بالدراسة والأرقام حتى يطمئن المواطن على مستقبله المائي.