لستُ هنا في معرض الحديث عن النصيحة بالمفهوم الديني، لكنني سأتحدث عن النصيحة بمفهومها الاجتماعي. لفت نظري أحد المبتعثين وهو يوضب أغراضه ناوياً الاتجاه إلى بلد دراسته، حين جاء لاهثاً وقد غرق حتى أذنيه بالنصائح الاجتماعية، معظمها تصب في إطار التحذير من النصابين، ولا تنتهي عند الحديث عن خزعبلات وخرافات حول البلد مكان الدراسة، من العصابات إلى ملاعب القمار إلى الملاهي المشبوهة، أو الرفقة السيئة والعصابات، كل تلك النصائح جيدة في معناها، لكنني أرى أن طرحها المكرر وكأنها من الغوامض أوالمستغلقات ممل جداً. تعب صاحبنا من عشرات النصائح والحكم التي تلقى على أذنيه كلما مرّ على إنسان عرفه أو لم يعرفه! لكن حين نأتي إلى شخصية هذا الإنسان نجده قد بلغ أشده واستوى، سيذهب إلى بلد قانونه صارم، يحفظ الناس عموما ويحميهم، ويمنحهم حرية شخصية، وسيدرس في مكانٍ آمن في جامعةٍ من أرقى الجامعات، وفي المقابل الذين نصحوه يغلب عليهم التعجل وقلة التجربة، فهم في الواقع يثبّطونه بهذه النصائح المجانية أكثر مما يحفزونه، وكأنه ذاهب لخوض معركة حربية. النصائح التي يجود بها الناس ليست دائماً جيدة، هناك نصائح تثقل الأذن وترهق كاهل الإنسان. يأتي البعض وكأنه الوحيد الذي خبر الحياة وجربها، ثم يحاصرك بسيلٍ من الكلام. كان الناس في السابق منفصلين عن بعضهم في البلدان، لم تكن وسائل الإعلام تنقل الأخبار، في زمن ما قبل الراديو والإنترنت والقنوات وكل صرعات الإعلام، لهذا كانوا يتسابقون لمعرفة أحوال هذا البلد أو ذاك، كان النصح في ذلك الوقت ممكناً ورائعاً، لكن أن تنصح إنسانا ما بفعل شيء أو تركه وهو شخص بالغ عاقل فإن في هذا استهلاكا للوقت والكلام، وتثبيطا لهمّة الإنسان الطموح. ليت أن الناصح دائماً يبدأ بنفسه، ويجلوها بتجاربه، لأن الإنسان لديه عقله في رأسه، ويستطيع أن يواجه المعضلات والكوارث والنوازل. قال أبو عبدالله غفر الله له: ما هو أسهل من النصح التشجيع والكلام الطيب، والدعاء بالتوفيق، لاحظتُ أن العارفين بعيوبهم ونقصهم هم أقل من يسدي النصح للناس، وأن بعض الذين يجهلون نواقصهم وثغراتهم هم الذين يظنون أن الكون كله بحاجةٍ إلى خبراتهم.. قليل من التواضع أيها السادة وقليل من النصح، وكثير من التشجيع والتحفيز.. أيها الناصحون لا تكونوا من المثبطين!