الثورة الشعبية في مصر التي انتهت إلى إزالة نظام الديكتاتور حسني مبارك، وفتحت آفاقًا كبيرة نحو مجتمع العدل والحرية وكرامة الإنسان، بما فيه كرامة الدعوة الإسلامية ودعاتها ووقف استباحتهم، هذه الثورة منحتنا الكثير من الدروس التي أتصور أننا والعالم معنا سيظل لفترات طويلة يتدارسها، غير أن هناك من الدروس ما يتعلق بالحالة الإسلامية، هو ما أودّ الإشارة إليه في هذه الخاطرة التي تناسب الأجواء التي نكتب فيها، أجواء من النشوة والاحتفال والدهشة والتفاؤل بالمستقبل. الحالة الإسلامية عند بدء الثورة انقسمت على نفسها بطبيعة الحال، وفق المرجعية التي كانت تستند إليها، القسم الأكبر من الحالة الإسلامية كان يمتلك وعيًا سياسيًا جديدًا ورؤية اجتهادية شرعية، تتعاطى مع المصالح المرسلة من خلال دراسة جيدة للمجتمع الإنساني اليوم بالخبرات التي تراكمت فيه، وموازين القوة وأدواتها التي اختلفت عن العصور السابقة، وأيضًا وفق بنية للسلطة وتكويناتها ومؤسساتها وأدواتها، تختلف أيضًا عن البنية السلطوية التي عرفتها العصور السابقة، وهي بنية مؤسّسية نتجت عن تراكم خبرات بشرية وتجارب إنسانية في السبل الفضلى لإدارة شؤون الناس في مجتمع جديد يمتلك أدوات تواصل واتصال وتقنية وإدارة لم تكن معروفة بأي شكل من الأشكال فيما سبق. القطاع الآخر من الإسلاميين رفض أن ينظر إلى تلك التحوّلات الضخمة التي عرفها المجتمع البشري، وحصر نفسه في محض النصوص الاجتهادية التي كانت تتعامل مع بنية لنظام الحكم مختلفة للغاية عن بنية المجتمع الإنساني الحديث، وأبى أن يقتنع أو يتصور أن تكوين المجتمع والدولة في بغداد في القرن الثاني الهجري يختلف عن تكوين المجتمع والدولة في بغداد أو القاهرة في القرن الخامس عشر، وراح يستحضر نصوص بعض الأئمة القدماء ليحاكم بها الواقع الحالي، فظلم الواقع وظلم الأئمة وظلم الأمة نفسها معه، وقدم أبلغ إساءة إلى صورة الإسلام وشريعته كداعم للاستبداد وقناع للديكتاتورية حتى كتب أحدهم علانية: وراء كل ديكتاتور عمامة. انتصار الثورة الشعبية في مصر ولّد رؤية مختلفة، أضافت الكثير إلى الفريق الأول من الإسلاميين الذي خاضها ودعمها أو ناصرها، ومن المؤكد أن الفريق الثاني من الإسلاميين سوف يستفيد منها؛ لأنها أثبتت أن "قوة الأخلاق" يمكنها أن تقهر قوة السلاح والاستبداد، وأن الحديث عن "الفتنة"، يحتاج إلى مراجعة جديدة؛ لأنه غالبًا ما يكون هواجس ووساوس لا تتأسس على أي علم أو منطق أو إحصائيات، وأن بنية الدولة والنظم السياسية في العصر الحالي تحمل في طياتها كجزء من مشروعيتها حقوقًا مقنّنة للشعب وقواه السياسية والاجتماعية المختلفة لم تكن موجودة أو مقننة في العصور السابقة، دون أن يعني ذلك "خروجًا" بالمفهوم القديم لهذا المصطلح ذي الظلال السلبية في الذاكرة السلفية الإسلامية. الذي أتمناه أن نتجاوز جميعًا موقف التصيّد أو المحاسبة أو التثريب أو المحاكمة على هذا أو ذاك، حتى لا يعوقنا ذلك عن دراسة تلك التجربة الإنسانية المدهشة، وأن يتولّد لدى الإسلاميين- وخاصة التيار السلفي- رؤية اجتهادية جديدة تواصل جهود السلف الصالح وتضيف إليها، وتؤسس لوعي شرعي جديد تستهدي به الأمة في صياغة حياة أفضل لها؛ لأن تجاهل هذا الأمر لن يعطل مسيرة التغيير أبدًا، ولكنه فقط سيجعل من قيادة الأمة السياسية والفكرية والأخلاقية في يد قوى أخرى وتيارات أخرى، في الوقت الذي تخسر فيه التيارات الإسلامية قبولها عند الناس وحضورها الأخلاقي في مجتمعاتها، وينظر إليها دائمًا على أنها "عبء" على تطور المجتمع وحريته وكرامته، ومعوّق لإقامة العدل بين الناس، وهذا ما لا يتمناه أي مخلص للأمة ولحملة رسالة الحق.