يبدو أن التسارع الخطير للأحداث الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي، وبهذه الوتيرة التصاعدية المثيرة التي لم يسبق لها مثيل، على الأقل في العقود القليلة الماضية، كل ذلك التسارع أفرز بعض اللغات والثقافات والسلوكيات الغائبة أو المغيبة عن فكر ومزاج المواطن العربي، خاصة الفئة العمرية الشابة (18- 40عاماً) التي تمثل النسبة الأكبر بما يزيد عن 60% من سكان الوطن العربي. ثقافات وسلوكيات وظواهر كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة المقتضبة، فقط سأحاول التركيز قليلاً على ظاهرة مهمة جداً أجدها الأخطر بين كل تلك الظواهر، ظاهرة طغت على كامل المشهد العربي في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة العربية التي تتقاذفها المحن وتُسيطر عليها الأزمات والاحتقانات، إنها ظاهرة الاحتكام للشارع من قبل المواطن العربي الذي لم يجد وسيلة أخرى كما يبدو لاستخدامها بمثابة المنبر المفتوح للتعبير عن قضاياه ومعاناته التي لا تنتهي، وشاشة تفاعلية كبرى وحية يبث منها شكواه من كل شيء وفي كل شيء. لقد سيطرت لغة الشارع تقريباً على كل مفاصل الواقع العربي المتردي، لغة الشارع بكل تفاصيله العاطفية المتأججة وبكل تداعياته الخطيرة لا يمكن السيطرة عليها. ظاهرة استخدام الشوارع العربية بدأت تجتاح العواصم والمدن العربية بعد عقود من الهدوء والكبت والخوف والغليان الداخلي والتردد، الآن الشارع العربي هو الذي يُسيطر على غالبية المشهد العربي تقريباً. هل أصبح الشارع العربي الآن هو الوسيلة الفاعلة للإعلان عن الحقوق والمطالب والتطلعات والإصلاحات، ولغة التعبير القوية عن الآمال والأحلام والطموحات، والأسلوب الأمثل لفضح الفساد بمختلف أشكاله؟ هل يحتمل الشارع العربي كل ذلك؟ ولكن في المقابل، ماذا عن تداعيات هذا الشارع غير المنضبط؟ وماذا عن الخوف من استغلاله من قبل جماعات مؤدلجة أو جهات متطرفة تحاول فرض سيطرتها على هذا الشارع، وتنفيذ بعض أجنداتها المشبوهة لإحداث فتنة هنا أو كارثة هناك؟ الشارع سلاح خطير جداً ولا يمكن التنبؤ مطلقاً بامتداداته وتداعياته. نعم، إنه عصر الماكينات الإعلامية الكبرى، ووسائل الإعلام المختلفة المؤثرة، ووسائط الاتصال الجديد، والفيس بوك والتويتر، والقنوات الفضائية التي تُغطي السماوات العربية، نعم إنه عصر كل تلك التقنية الهائلة، ولكن الشارع العربي هو سيد الموقف الآن! في بدايات القرن الماضي وحتى منتصفه تقريباً، لعب الشارع في أجزاء كثيرة من العالم دوراً مهماً ومفصلياً في تشكيل وتوجيه وتغيير الكثير من النظم والمواقف والسياسات والاستراتيجيات التي رسمت الخريطة السياسية العالمية، ولم تكن الشوارع العربية بعيدة عن كل ذلك. وهنا لابد من عدة أسئلة غاية في الأهمية وتفرض نفسها في مثل هذه الظروف الاستثنائية. كيف نصف الشارع العربي، وما هي خصائصه، ومن يقوده، وما مدى تأثيراته المباشرة وغير المباشرة، وهل هناك قناعة أصلاً بتحريكه؟ وأسئلة كثيرة أخرى تصطدم أحياناً بالنظرة النمطية التي يحملها المواطن العربي لهذا الدور "المزعوم" للشارع العربي، كما أن هناك تشكيكا راسخا في جدوى استخدام هذا الشارع، هذا إضافة إلى غياب الكثير من الثقافات والسلوكيات المتحضرة التي يُفترض استحضارها وممارستها أثناء استخدام هذا الشارع غير المنضبط وغير الملتزم والذي تغلب عليه العفوية والشحن العاطفي والتعبئة النفسية. العناوين والمطالبات التي يرفعها عادة الشارع العربي كثيرة جداً، ولكنها تكاد تكون معروفة ومنطقية وبسيطة، تبدأ بمعضلة البطالة التي هي أشبه بكابوس دائم في الدول العربية ولم تُفلح كل المحاولات والإصلاحات في حلحلة هذا الملف العربي الساخن، ثم مروراً بالكثير من التحديات والأزمات كالفقر والفساد والتعليم وتكافؤ الفرص والصحة والسكن وضعف الأجور والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة والزواج وتنامي حالة اليأس والإحباط، وانتهاء بالحرية، حرية التعبير والاختيار والمشاركة والمصير. تلك هي العناوين والرسائل التي توجهها تلك الصرخات المرتفعة، وتلك القبضات الملتهبة في كل تلك الشوارع العربية، وهي في الحد الأدنى مطالب شرعية وضرورية ولا يُنكرها أحد على الإطلاق، ولكنها رغم كل ذلك لا تتحقق. سلاح الشوارع خطير للغاية، ولا ينبغي التعامل معه فقط بمنطق القوة والحزم والتعسف، ولكن الأمر بحاجة إلى دراسة وبحث كجانب تحليلي لهذه الظاهرة الخطيرة، إضافة إلى الاقتراب من هؤلاء الشباب وتلمس مطالبهم واحتياجاتهم، فلغة العنف والبطش لم تنجح أبداً، والتاريخ القريب والبعيد يؤكد ذلك.