عبدالوهاب بن ناصر الطريري - الاسلام اليوم انتقلت من كفر حفنا من عمل أشمونين فيما يُعرف اليوم بمحافظة المنيا بالصعيد إلى مصر، انتقلت من القرية التي تحيط بها معابد الفراعنة وتماثيلهم إلى مصر حيث الفرعون لتكون محظيّته في قصره. وفي الوقت ذاته انتقل إبراهيم الخليل من الشام إلى مصر ومعه زوجه سارة، فلما دخل مصر أُخبر الفرعون بأمره وقالوا له: قد قدم أرضك امرأة من أحسن الناس، لا ينبغي لها أن تكون إلاّ لك، فأرسل إليها فأُتيَ بها، فلما قام إليها قالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي فلا تسلّط عليّ الكافر، فلمّا مدّ يده إليها قبضت يده قبضة شديدة، وتشنّج حتى جعل يضرب برجله كأنه مصروع، فقالت سارة: اللهمّ إن يمت يُقال هي قتلته، اللهمّ فأرسله، فأرسل ثم قام إليها فدعت عليه فأخذ بأشد من الأولى، فدعت الله أن يرسل فأرسل، فدعا الذي جاء بها وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر وأخرجوها من أرضي، فوهب لها هاجر لتخدمها؛ لأنها كبرت في عينه أن تخدم نفسها، فلما عادت سارة إلى إبراهيم قالت: رد الله كيد الكافر، وأخدمني هاجر، فاستوهبها إبراهيم من سارة فوهبتها له، و العجيب أنا لا نعلم من خبر مجيء إبراهيم إلى مصر غير هذا الخبر الذي جمعه بهاجر، وكأنما أتت من الصعيد، وأتى إبراهيم من الشام ليجتمعا هناك، ثم يأخذها ليتم أمر من أمر الله بلطفه الخفي (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ). ويا لله لهاجر وهي في صحبة الخليل بعد صحبة فرعون، ومع رسول الله بعد أن كانت مع عدو الله. خرجت هاجر مع إبراهيم إلى الشام، وسرعان ما آمنت بالله، وكفرت بالطاغوت، واتبعت ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وصارت سرية نبي وأم نبي، حتى أتاه أمر الله أن يذهب بها ورضيعها إلى وادي مكة، فذهب بها إبراهيم إلى هناك ليضعها هي وابنها في واد غير ذي زرع، وكم هي فجاءة المشهد لهاجر وهي التي عاشت في أنهار مصر وجنان الشام تُترك في هذه الأرض القاحلة الموحشة هي ورضيعها ليس معها إلاّ سقاء ماء وجراب تمر، ويمضي الخليل ويدعها، فلما رأت نفسها بين هذه الجبال الجرداء وفي هذا القفر الموحش الذي لا أثر فيه للحياة وللأحياء استوحشت، فتبعت إبراهيم تناديه فأدركته عند ثنية الحجون فنادته: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! قالت له ذلك مراراً وإبراهيم لا يلتفت إليها ولا يجيبها، فنادته: آلله أمرك بذلك، قال: نعم. فقالت بإيمان عميق ويقين عظيم: رضيت بالله هو حسبي، إذاً لا يضيّعنا، وكأنما سرى إلى قلبها يقين من يقين إبراهيم الذي قال وهو يُلقى في النار: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وعادت هاجر إلى حيث تركها إبراهيم في مشهد من مشاهد التعظيم لله والتسليم لأمره والثقة بولايته، لتعيش بعد ذلك الامتحان الأصعب، حين نفد الماء من سقائها فعطشت وعطش ولدها، وجعلت تنظر إليه بعين الأم الشفوق، فترى رضيعها يتلوى من العطش، ويتلبط في الأرض، وتتقطع أنفاسه كأنما ينشغ للموت، فانطلقت من عنده كراهية أن تنظر إليه على تلك الحال، فرقيت الصفا وكان أقرب جبل إليها، فقامت عليه تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا انصبت في الوادي رفعت طرف ثوبها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى صعدت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً، وكيف ترى ومن سترى في هذا القفر اليباب؟!! ومع ذلك استمرت سبع مرات تصعد الصفا والمروة، وتعود في كل مرة إلى رضيعها تتفقده، وتنظر ما حدث له. ويا لله لهذه الصديقة المؤمنة التي كانت تعيش هذا الكرب وذروة الألم والجهد والإشراف على حافة الهلاك، ومع ذلك لم تقل: هذا ما فعله إبراهيم بي، كيف يتركني في هذا المكان؟ كيف تركته يذهب؟ كلا. فقد كان إيمانها بربها أعظم من كل تلك الجبال المتطاولة حولها، ولذا فلم يخالجها ندم أو يسرب إليها شك. حتى إذا بلغت المعاناة ذروتها وصارت الهلكة منها على شفا، وتقطّعت عنها كل أسباب الأرض أتاها الغوث من السماء بأعظم معاني الرحمة والإكرام من المولى الكريم إلى أَمَته الصدّيقة الموقنة، فإذا روح القدس جبرائيل عليه السلام يتنزل على الوادي المبارك فيناديها، فلما سمعت الصوت في هذا السكون المطبق قالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت، فسمعت النداء فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا بها بالملك عند موضع زمزم، فبدأها بالمؤانسة قائلاً: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال: إلى من وكلكما، قالت: إلى الله، قال: وكلكما إلى كافٍ، فغمز بعقبه الأرض فنبعت زمزم، فأسرعت هاجر بطبع الإنسان الذي خُلق من عجل تحفر النبع بيديها وتحوطه، فقال ابنها محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً). أما ما بقي من خبرها فهو الأغرب والأعجب. تفجّر نبع زمزم بهمزة جبرائيل بين يدي هاجر، وجعلت أم إسماعيل تغترف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت وأرضعت ولدها، فإذا الملك بعد أن أغاث لهفتها يسكب في نفسها البشرى، ويبث فيها السكينة والأمان، فيقول لها: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. إنها بشرى بسلامة هذا الغلام الذي كان على شفا هلكة قبل قليل، وبشرى باصطفاء الله له ليكون هو وأبوه عمار بيته. وبنبع الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي اهتزت الحياة في المكان فدبّت إليه دوابّ الأرض، وطارت عليه طيور السماء، وبقيت أم إسماعيل على حالها هنالك، طعامها وشرابها هذا الماء المبارك. حتى مرت جماعة من جرهم مقبلين من أعلى مكة من ثنية كداء حتى نزلوا في أسفل مكة فيما يُعرف اليوم بالمسفلة، فلما نزلوا مكانهم رأوا طائراً يحوم في السماء فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء وعهدنا بهذا الوادي ولا ماء فيه، فأرسلوا من يستكشف لهم الأمر فإذا هم بالماء، فرجعوا إلى رفقتهم فأخبروهم، فركبوا إلى الماء فوجدوا عنده أم إسماعيل فقالوا: هل تأذنين لنا بالنزول عندك. فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم . قال صلى الله عليه وسلم وهو يحكي إذنها لهم بالنزول: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس)، فنزلوا عندها وأرسلوا إلى أهلهم فلحقوا بهم ونزلوا معهم، وصار في الوادي أبيات وحي وتجمع بشري، شب إسماعيل بينهم وتعلم العربية منهم. أمّا هاجر فقد رأت الرضيع الذي كاد يهلك بين يديها وهو يدرج من الطفولة إلى الفتوة والشباب، وما ماتت حتى قرّت عينها برؤية رضيعها رجلاً مستتمّ الرجولة هو أعجب الحي وأنفَسُهم حتى رغبوا فيه وزوجوه امرأة منهم. فقرة عينٍ لأم إسماعيل وهي ترى رضيعها رجلاً قد تزوج واحتمل ما يحتمل الرجال. وقرة عين لهاجر الصديقة وهي ترى بعينها تحقيق يقينها بربها يوم قالت بإيمان واثق: إذاً لا يضيّعنا، ولا و عزته وجلاله ما ضيّعها، بل حفظها، وهو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. وما أعجب هذا الموقف كيف أن هؤلاء جماعة رجال أشداء أقوياء يرون الماء وليس عليه إلاّ أم ورضيعها فيخضعون لها، ولا ينزلون حتى يستأذنوها ويقبلوا بشرطها عليهم، وأتساءل بعجب كيف لم يروا المرأة وابنها غنيمة هينة حيث وجدوها في هذا القفر ليس معها ولا حولها من يمنعها؟! وقارنْ ذلك بحال السيارة الذين مرّوا بيوسف في الجب فقالوا: يا بشرى، هذا غلام وأسروه بضاعة، لِتعلمَ عجيب لطف الله الذي أخضع قلوب جماعة الرجال لامرأة لا حول لها ولا قوة، وعظّمها في نفوسهم، حتى ملّكوها أمرهم يوم قبلوا أن يكون الماء حقاً لها لا حق لهم فيه. ولم يتساءل أحد منهم: ما الذي يمكن أن تحمي به حقها؟ وما الذي يمكن أن تدفعهم به لو طمعوا في الماء ومن على الماء؟ إنه تدبير الله لينفذ مشيئته، ويتمّ أمرَه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وبعد فإني كلما رأيت هذه الزحوف المليونة تلتطم أمواجها في فجاج مكة تذكرت يوم لم يكن يعمر هذا المكان إلاّ أمنا هاجر ورضيعها، وأتساءل: وهل يمكن أن يتخيل خيالها مهما بلغ وبالغ هذا المكان وقد امتلأت فجاجه وازدحمت أنحاؤه أنعاماً وأناسي كثيراً؟! وهل يمكن أن تتخيل ذلك حين كانت تنادي أبانا إبراهيم: أتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! كيف لو رأت ذاك الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء وقد صار مثابة الناس ومقصدهم من كل أصقاع الأرض، تهوي إليه الأفئدة وتُجبى إليه ثمرات كل شيء؟ وهل كانت تتخيل أن قدر الله يصرفها من الصعيد إلى مصر إلى الشام إلى مكة لتكون هي البذرة البشرية لأمة تتناسل في هذا الوادي حتى توصل إلى الخليقة سيدها وخيرة الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم الذي سيقص علينا خبرها، ويوصينا بمصر وأهلها وفاء لرحم أمنا الصديقة المباركة فيقول عن مصر: (استوصو بأهلها خيراً فإن لهم رحماً وصهراً). إنها حكمة الله البالغة ولطفه الخفيّ إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم. ثم كل ما زرت مصر فرأيت طبيعة أهلها، وتلك القلوب الطيبة والنفوس الأليفة المألوفة، وسرعة التعارف والتآلف بينهم ومعهم بحيث ترى اثنين يتحدثان بانسجام واهتمام فتظنهما قريبين أو صديقين حميمين لتكتشف أنهما التقيا الآن، ولم يعرفا أسماء بعضهما بعد، فأتذكر: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس). فأقول: لازال الأنس في قوم هاجر إلى يومنا هذا. وكلما رأيت الصعيدي بعمته ولفته وأثوابه الواسعة ووجهه المدبوغ بالسمرة الغامقة قلت: هذا خالي ووصاة رسول الله إليّ.