ما أن يفرغ المرء من تجرع الماء المبارك، حتى يسترجع بعض الحقائق التي يختزنها في ذاكرته حول قصة تفجر هذا الماء.. اذ يعد ماء زمزم أحد العناصر المهمة داخل المسجد الحرام، تحتضنه أشهر بئر على وجه الأرض لمكانتها الروحية المتميزة وارتباطها الوثيق بوجدان المسلمين عامة، والمؤدين لشعائر الحج والعمرة خاصة، فضلاً عن كونها البئر المباركة التي فجرها جبريل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه - عليهما السلام - حيث تركها خليل الله إبراهيم - عليه السلام - في بطن الوادي القفر الذي لا زرع فيه ولا ماء. وذلك حين نفد ما معهما من زاد وماء، وجهدت هاجر وأتعبها البحث ساعية بين الصفاء والمروة ناظرة في الأفق البعيد علَّها تجد مغيثاً يغيثها، فلما يئست من الخلق أغاثها الله عز وجل بفضله ورحمته. قصة بئر زمزم تعود قصة ظهور ماء زمزم عندما استوهب خليل الله سيدنا إبراهيم ام ابنه اسماعيل هاجر فاشترطت عليه أن لا يسرها فالتزم لها بذلك خليل الله ثم غارت منها وهي تعفى أثرها على ضرتها سارة فكان ذلك السبب في تحويلها مع ابنها إلى مكةالمكرمة , لتبدأ من تحت قدمي ابنها إسماعيل قصة حياة تمثلت بظهور ماء زمزم حين أمر الله سبحانه وتعالى نبيه سيدنا إبراهيم عليه السلام بالمسير من بلاد الشام إلى البلد الحرام فركب البراق وهو يحمل بين يديه ابنه إسماعيل الذي لم يتجاوز بعد العامين من عمره ولم يزل رضيعا وكانت هاجر تسير خلفهما فيما كان جبريل عليه السلام يقوم بإرشادهم الى موضع البيت الحرام وحين بلغ المكان عند البيت المحرم عند دوحة فوق زمزم بأعلى المسجد استودعهما إبراهيم في ذلك الوادي الموحش الذي لا ماء فيه ولا بشر ولا طير به ولا شجر. فقالت ام اسماعيل: يا ابراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولاشيء ؟فقالت له مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا ؟ فقال: نعم. فقالت ام اسماعيل: إذاً لا يضيعنا الله ورجعت الى المكان الذي تركهما فيه وانطلق إبراهيم وكان عند الثنية حتى لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا دعوته المباركة رافعا يديه الى السماء قائلا: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون وبقيت أم اسماعيل ترضع وليدها الجائع وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وهي تنظر اليه بعد ان انقطع درها , فاخذ طفلها يتلوى من الظمأ ولا تملك ما بيدها ما يسكت صوت جوعه وظمئه فكانت تسير تارة وتهرول اخرى سعياً منها لعلها تجد قطرة ماء تطفئ ضمأ صغيرها مكرهة ان يقع نظرها اليه وهو بلهفة الام الحنون على فلذة كبدها كونها لا تستطيع النظر الى صغيرها ولم يكن أقرب اليها سوى جبل الصفا الذي يليها فكانت تقف في اعلاه مستقبلة ذلك الوادي فتنظر لعلها ترى أحداً ، ثم تهبط من اعلى الصفا حتى إذا بلغت اسفل الوادي رافعة طرفي ذراعيها الى السماء تدعو ربها وهي ساعية سعي الإنسان المجهد وهي تهرول في ذلك الوادي بين الصفا والمروة سبع مرات لتنظر من أعلاهما لعلها ترى أحداً يغيث صغيرها دون جدوى.فلما أشرفت المروة أرادت ان تطمئن على وليدها فإذا هي تسمع صوت ملك يناديها ارسله الله اليها ليغيثها مما هي فيه فاخذت تقول: أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير: قال: فضرب جبريل الأرض فظهر الماء حتى ان بلغت موضع طفلها رأت الماء قد تفجر من تحت قدمي الصغير وهو يحث بعقبه حتى ظهر الماء فأخذت امه تحوضه بيديها وهي تغرف من الماء في سقائها مرددة بعض الكلمات : يا .. ماء زم .. زم حتى شربت وأرضعت صغيرها ، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله سيبنيه هذا الغلام وأبوه ,وإن الله لا يضيع أهله, وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية حيث كانت السيول تأتي فتأخذ عن يمينه وعن شماله وظلت كذلك وكان ظهور ماء زمزم في سنة 2572 قبل ميلاد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- تقريبًا، وهو ما يجعل بينها وبين ظهور زمزم بالتقويم الهجري حوالي أربعة آلاف سنة. حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً يحلق فوق موضع زمزم فقالوا : إن هذا الطائر ليحلق على ماء ماعهدناه بهذا الوادي فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا بهم يجدان الماء بأم أعينهما فرجعا ليخبرا جماعتهما بالماء ، فأقبلوا عند مرادهم فاذا بأم إسماعيل عند الماء فقالوا اتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم ، فنزلوا معهم حتى إذا بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. سبب التسمية حيث تعود اسباب تسمية بئر زمزم بهذا الاسم نسبة الى كثرة مائه، وقيل في روايات اخرى: لاجتماعه لأنه حين فاض منها الماء على وجه الأرض قالت ام اسماعيل هاجر للماء: زم زم، أي: اجتمع يا مبارك، فاجتمع فسميت زمزم، وقيل ايضا : لأن هاجر زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا اوشمالا فقد ضمت هاجر الماء حين تفجرت وسال منها الماء وساح يمينا وشمالا فمنع بجمع التراب حوله. كما ان لزمزم ايضا أسماء كثيرة تدل على فضلها، ومنها: زَمْزم وزُمام، ورَكْضة جبرائيل، وهزمة جبرائيل، وهزمة الملك، والهزمة والركضة وهي سقيا الله لإسماعيل -عليه السلام-، والشُّباعة، وشُباعة، وبرَّة، ومضنونة، وتُكتَم، وشفاء سُقم، وطعام طُعْم، وشراب الأبرار، وطعام الأبرار وطيّبة. وكان حفر عبد المطلب لزمزم عقب حادثة الفيل بعد أن رأى في منامه هاتفًا يقول له احفر زمزم، ثم عاوده الهاتف قائلا: احفر زمزم بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر، فلما استيقظ عبد المطلب، وذهب إلى المسجد الحرام، جلس فيه؛ فرأى ما سُمِّي له، حيث نحرت بقرة بالحزورة وهو اسم السوق في الجاهلية فانفلَّت من جازرها حتى غالبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فجُزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها؛ فأقبل غراب فهوى حتى وقع في الفرث، واجتمع حول ما تبقى النملُ. فقام عبدالمطلب وحفر هناك فجاءته قريش: قائلة له: ما هذا الصنيع، لِمَ تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني حافر هذه البئر، ومجاهد مَن صدني عنها؛ فطفق هو وابنه الحارث وليس له ولد يومئذ غيره، فسفه عليهما يومئذ أناسٌ من قريش؛ فنازعوهما وقاتلوهما، وتناهى عنه أناس آخرون لما يعلمون من عتاقة نسبه حتى اشتد عليه الأذى؛ فنذر إن رُزق بعشرة من الولد أن ينحر أحدهم، ثم استمر الحفر حتى أدرك سيوفًا ذهبية في زمزم؛ فلما رأت قريش السيوف قالت له: يا عبد المطلب أجزنا ما وجدتَ فقال: هذه السيوف لبيت الله الحرام؛ فحفر حتى انبط الماء في القرار. ثم بنى عليها حوض فطفق هو وابنه يملآن الحوض؛ فيشرب منه الحاج فيكسره أناس من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فجاءه هاتف في المنام يقول له قل: اللهم إني لا أُحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حِلٌّ؛ فلما أصبح عبد المطلب نادى بالذي رأى في المسجد، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه أحد من قريش إلا رُمي في جسده بداء حتى تركوا إفساد حوضها. ثم تزوج عبد المطلب حتى وُلِدَ له عشرة ذكور فهمَّ بنحر أحدهم، وأصابت القرعة عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم- فكرر القرعة عشر مرات إلى أن افتدى عبد الله بمائة ناقة. كيف كانت زمزم؟ تقع بئر بالقرب من الكعبة المشرفة ولها فتحة الآن تحت سطح المطاف على عمق (156) سم. وفى أرض المطاف خلف المقام إلى اليسار لمن يقف بمواجهة البيت الحرام يوجد حجر دائري الشكل كتب عليه بئر زمزم وهذا الحجر يكون عموديا مع فتحة البئر الموجودة أسفل سطح المطاف وقد جعل في آخر المطاف درج يؤدي إلى فتحة البئر. وبئر زمزم ينقسم إلى قسمين: الأول جزء مبني عمقه (12,80) مترا عن فتحة البئر. والثاني جزء محفور في صخر الجبل وطوله (17,20) متر وهناك ثلاثة عيون تغذى بئر زمزم:عين في جهة الكعبة ومقابلة للركن ويتدفق منها القدر الأكبر من المياه وعين تقابل جبل أبي قبيس والصفا وعين جهة المروة وهذه العيون مكانها في جدار البئر على عمق (13) متراً من فتحة البئر حيث ظلت زمزم فترة طويلة عبارة عن حوضين الأول بينها وبين الركن يشرب منه الماء، والثاني من الخلف للوضوء، له سرب يذهب فيه الماء ولم يكن عليها شباك حينئذ. وكانت مجرد بئر محاطة بسور من الحجارة بسيط البناء، وظل الحال كذلك حتى عصر أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الذي يعد أول من شيد قبة فوق زمزم، وكان ذلك سنة مائة وخمس وأربعين. وكان أول من عمل الرخام على زمزم وعلى الشباك وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته، ثم عملها المهدي في خلافته، وقد سقفت حجرة زمزم بالساج على يد عمر بن فرج وكُسِيت القبة الصغيرة بالفسيفساء، كما جددت عمارة زمزم، وأُقيم فوق حجرة الشراب قبة كبيرة من الساج بدلاً من القبة الصغيرة التي تعلو البئر، وكان ذلك في عهد الخليفة المهدي سنة 160ه، كما جددت بئر زمزم وكسيت بالرخام، وجددت قبتها في عهد الخليفة العباسي المعتصم سنة 220ه. إصلاحات تاريخية وحيث ان بئر زمزم من العناصر المهمة داخل المسجد الحرام كونها هي أشهر بئر على وجه الأرض ولها مكانتها الروحية وارتباطها الوثيق في وجدان المسلمين عامة، والمؤدين لشعائر الحج والعمرة خاصة فكان من الطبيعي ان تحظى البئر بالعناية والاهتمام اللا محدود من العمارة والإصلاح ومن أهم هذه الإصلاحات: حيث عمرت زمزم عقب حريق أصاب المسجد الحرام في ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة اثنين وثمانمائة في عصر المماليك في عهد السلطان الناصر فرج بن برقوق. وعمرت ايضا قبة زمزم على يد قاضي مكة جمال الدين محمد بن أبي ظهيرة سنة 815ه كما تم إصلاح بئر زمزم وتجديد رخامها في عهد السلطان قايتباي سنة 884 ه. أما في العصر العثماني فقد كان الاهتمام كبيرًا بالمسجد الحرام وقد جرت العديد من الإصلاحات على مبنى زمزم، وخصوصًا في عهد السلطان سليم الثاني سنة 982 ه. كما تم تجديد قبة زمزم في عهد السلطان أحمد سنة 1201 ه. كما تم في عهد السلطان أحمد الرابع تجديد مبنى زمزم سنة 1083ه واعقبه في عهد السلطان عبد الحميد الأول تجديد آخرسنة 1187ه - سنة 1203ه. كما شهدت قبة زمزم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أكبر عمارة سنة 1300ه، وقام بها المهندس السيد محمد صادق. كما أُعيدَ بناء زمزم من جديد بعيدًا عن مكانها الأصلي وذلك في العصر الحديث نظرًا لأن المبنى القديم كان موضعه قريب من الكعبة وبالتالي اصبح المبنى يعوق حركة الطواف نظرا لكثرة أعداد الحجيج وقد تم توصيل مياه زمزم إلى مكانها الجديد من الجزء الشرقي من الحرم عن طريق مواتير رفع ومواسير، كما تم تخصيص مكان للرجال وآخر للنساء، وأخيرًا فرغم مرور آلاف السنين على بئر زمزم؛ فقد بقي ماؤها للنقاء والطهارة والشفاء حتى بات ماؤها يسقي ساكني مكة وما حولها والمدينة، كما يسقي الحجاج والعمار، ويحمل منها الناس إلى بلادهم، وهي آية لا تزال حاضرة بين أيدينا.