مشاري الذايدي الشرق الاوسط اللندنية منذ أن اقتحم ثلة من العسكر الإسرائيلي سفينة (مرمرة) التركية ضمن قافلة الحرية المتجهة لغزة، وما نتج عن ذلك من ارتكاب العسكر الإسرائيلي لجريمة إراقة الدماء والقتل، وعشرات المقالات والأخبار والبرامج التلفزيونية تتوالى في العالم العربي. قرأت وشاهدت شطرا منها، غالبها، إلا استثناءات مُثرية، اتجه صوب العويل والنحيب، وشتم إسرائيل وشتم من لم يشتم إسرائيل، وشتم من لم يشتم من لم يشتم إسرائيل..! أقيمت حملة «مطاردة ساحرات» في بعض الصحف، ومن قبل بعض الكتب، والتهمة هي: القبض عليك متلبسا بتهمة التفكير والتحليل الهادئ! الحجة الجاهزة هي أنك لم تصرخ بالقدر الكافي لمساندة السفن ومن عليها، ولم تنحز بشكل كامل لا غبار عليه، فقد كان على كل مشتغل ب«مهنة الكتابة» حقا، أن يترك كل شيء ويتحول إلى هاتف ومتظاهر، إن لم يكن حامل سلاح أيضا. رغم أننا لم نتوقف فعلا منذ نحو قرن عن فعل ذلك. شخصيا، لم أكتب عن أزمة سفن الحرية وغزة بسبب انشغالات طارئة، لكن هذه الفترة جعلتني أتأمل كثيرا فيما كتب وقيل على الشاشات. حتى لا يفهم البعض الأمر بشكل متعجل، كالعادة، أذكر بأن النقاش ليس حول التوصيف الأخلاقي لما قامت به إسرائيل. هي جريمة، وفقط، ولا أظن أن ثمة من لديه حس إنساني يخالف هذا التوصيف. ولا مشكلة أيضا، بل هو أمر طبيعي جدا، أن يهتف الناس تضامنا مع ضحايا الجريمة، وضد المجرم، هذا سلوك إنساني طبيعي، وردة فعل تلقائية. وأن تغطي وسائل الإعلام ذلك، فهذا هو واجبها وعملها؛ نقل الأحداث والتعليق عليها. كما تفعل كل وسائل الإعلام في العالم. ولا بأس حتى لو وصل صدى هذه المظاهرات وسخونتها إلى مقالات البعض التي تصنف بأنها مقالات «رأي»، تفاعلا مع الأحداث، خصوصا أننا أصحاب ثقافة انفعالية وخطابية، في الأعم الأغلب، وتفعل فينا الكلمات الرنانة الأفاعيل. والبعض يعتبر الكتابة نوعا من «الجهاد» العام. المشكلة هي حينما يضيق بعض الكتاب من محاولة البعض منا للتفكير والتحليل والتساؤل عن أسباب التحرك التركي الأخير هذا، وحول تصرفات رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، مثل حركته الغاضبة وإلقاء الأوراق في منتدى دافوس قبل عام، موليا ظهره للرئيس الإسرائيلي بيريس، أو إشاراته المتكررة للعظمة التركية والدور الجديد الأسمى لها في المنطقة، وعلاقاته العلنية بمنظمات حماس وغيرها، وسياسته الممانعة للعقوبات الدولية تجاه إيران، ثم تعاونه هو ورئيس البرازيل (لولا) مع إيران بهذا الخصوص، وأخيرا قافلة الحرية، وخطبه الهجومية، بحذر وحدود طبعا، تجاه إسرائيل. تحولات «جديدة» في السياسة التركية الخارجية إذن، وبالمناسبة هي ليست جديدة تماما، فقد درج بعض المسؤولين العلمانيين الأتراك على إلقاء تصريحات متضامنة مع القضية الفلسطينية منذ 1967، كما أشار الكاتب عادل الطريفي في مقالة تحليلية له حول تفسير التحول التركي، نشرها هنا في هذه الجريدة الأربعاء الماضي. مع الإشارة إلى أن استخدام أردوغان للموضوع الفلسطيني كأداة سياسية ضاغطة في السياسة التركية يعتبر أمرا جديدا. إذا كانت جديدة ومثيرة، هذه التحولات، ومن قبل دولة محورية وركيزة من ركائز الشرق الأوسط، بكل إرثها التاريخي والسياسي، ثم ثقلها الاقتصادي وأهميتها الاستراتيجية لأميركا والعالم الغربي، ألا تستدعي كل هذه الاعتبارات نوعا من التحليل والقراءة الهادئة؟ هل نصفق وحسب لأردوغان، وإذا لم نفعل نصبح «باردين» أو خونة؟! مهمة الكاتب هي التفكير خارج الصندوق وتقليب النظر ومحاولة الرؤية من زاوية مختلفة، ليس حبا أو شغفا بمخالفة «السائد» بل حبا في اكتمال الرؤية وسفور الشيء المرئي إليه بشكل كامل، زاوية واحدة من الصورة لا تعطي حقيقة الصورة، بل جانبا منها. هل يقظة التاريخ العثماني هو ما يوجه السياسة التركية الحالية؟ هل هو النكاية بأوروبا بسبب تعززها على تركيا في مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي؟ هل هو بسبب شعور تركيا باستفراد إيران بالمشهد، وضعف الحضور العربي، فذعرت من اختلال ميزان القوى في الشرق الأوسط، فتقدمت لشغر الساحة؟ هل هو دافع اقتصادي؟ هل هو برضا أميركا وبعض الدول العربية لتحجيم الدور الإيراني واقتياد الشارع العربي عوض إيران، فتركيا في النهاية دولة علمانية وفق دستورها وعضو في الناتو وحليف استراتيجي لأوروبا وأميركا، فيها قاعدة أميركية ضخمة وتعاون عسكري وأمني مع إسرائيل، تنتهج نوعا مريحا من الإسلام بالنسبة للعالم الغربي، تؤمن بحل الدولتين في مسألة فلسطين وإسرائيل، ضد العمل العسكري للجماعات المسلحة مثل حماس وحزب الله.. باختصار تركيا لها حدود مريحة للنضال، بينما إيران دولة بلا حدود سياسية ودستورية وآيديولوجية؟ وغير ذلك من الافتراضات التي يجب أن تفحص وتقرأ ويقارن بينها على مهل ل«فهم» لماذا تقوم تركيا بما تقوم به الآن تحت قيادة أردوغان؟ ثم هل أردوغان إسلامي مخاتل؟ أم قومي تركي بمسحة إسلامية، أم بالفعل نحن أمام نسخة جديدة من الإسلاميين أنجبتهم الظروف الخاصة لتركيا الكمالية ضمن عدة عقود قاربت القرن من التجربة منذ سقوط الخلافة العثمانية؟ هل هو خيار جديد لصورة المسلم السياسي، بعمق صوفي ونشاط سياسي ونعرة وطنية؟ أم هو رجل جائع للنفوذ والشهرة والشعبوية. هل هو خليفة عثماني جديد أم جنرال تركي يحتقر العرب؟ أم لا هذا ولا ذاك، بل رجل يعمل ضمن حدود الدور التركي الجديد ويقوده؟ أسئلة أكثر من الأجوبة، ولكن لدى المتخصصين والمتابعين للحالة التركية الأجوبة التي من الأفضل لنا أن نبحث عنها ونقرأها لنمنح أنفسنا وعقولنا فرصة للتفكير، بعدما أخذت الحناجر حقها من الصراخ والعويل. المشكلة أن هذه الحفلات الصاخبة والحملات الهائجة لتخوين كل من يحاول التفكير بهدوء في حمأة الضجيج، متكررة في إعلامنا العربي، من حرب حزب الله في يوليو (تموز) 2006 إلى حرب غزة.. إلى قافلة الحرية، وقبل ذلك حرب بل حروب صدام حسين، وقبل ذلك كان كل من ينتقد جمال عبد الناصر قبل هزيمة 67 يعتبر شيطانا خائنا، الاستجابة هي الاستجابة، والتشنج هو التنشج، حتى أصبح المرء يتساءل: هل العقل العربي مصاب بعصاب جمعي كامن في الأعماق حتى لدى بعض من يظن بهم الحكمة والهدوء؟! من المفارقات أن بعض المثقفين العرب ممن عرفوا بالنزعة الثورية، مثل الإسلامي الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي، وهو أستاذ علوم سياسية، لديهم مواقف مختلفة عن السائد، فقد ألقى، مؤخرا، محاضرة في لقاء نظمته ديوانية الوحدة الوطنية في الكويت، قال فيها «أخطر شيء في السياسة أن تقرأها بشكل عاطفي كما يحصل من عاطفة وترويج لتركيا وأردوغان وتسليم الأوراق كافة له». موقف آخر اتخذه «عراب» الحركة النورسية في تركيا، وعراب «الإسلام التركي» فتح الله غولن، حيث لام الحكومة التركية في إدارتها لأزمة سفن الحرية في غزة، موضحا أنه كان يتعين عليهم السعي مسبقا للحصول على موافقة إسرائيل بدلا من تحدي السلطة، كما ذكر الصحافي برايان نولتون، في صحيفة «نيويورك تايمز»، في تقرير نشر في «الشرق الأوسط» الأحد الماضي. من الصعب اتهام النفيسي أو فتح الله غولن بالانبطاح للغرب أو بالخيانة، لكنهما أبديا آراء مخالفة «للسائد»، لا ندري كيف سيقف منهما حملة سيوف التخوين، إلا إن كانت هذه السيوف موجهة فقط لصدور معينة. بكل حال، ليس ما سلف في هذه المقالة نقاشا أو تحليلا للموقف التركي الأخير، بل قراءة عابرة في مواقف بعض الأصوات العربية الإعلامية التي ضاقت من مجرد محاولة الفهم والتحليل للتحرك التركي الأخير. أخشى أن يأتي يوم تصبح فيه وظيفة التفكير تهمة لأنها تعكر صفو «السائد» الصاخب.