الداعية الإسلامي التركي المعتدل فتح الله غولن قلما يطلق التصريحات الإعلامية، بخاصة إذا كان الموضوع سياسياً. لذلك بدا تصريحه الأخير حول قافلة المساعدات الإنسانية إلى غزة المحاصرة غريباً بل نافراً، يكاد يستفز الحساسيتين الإسلامية والقومية التركيتين. فقد قال «الخوجا» المقيم في الولاياتالمتحدة، في تصريح إلى صحيفة «وول ستريت جورنال»: «كان على القافلة أن تستأذن إسرائيل قبل التوجه إلى غزة». وأثار التصريح عاصفة من المناقشات في الرأي العام التركي، وارتباكاً واضحاً لدى الإسلاميين. وكتب الصحافي الإسلامي في صحيفة «الشفق الجديد» هاكان آل بيرق، الذي كان أحد الناشطين على سفينة مرمرة الزرقاء ضمن أسطول المساعدات الإنسانية، قائلاً بقلب جريح: «دعونا نغلق هذا الموضوع ولا نسيء بعضنا إلى بعض». وفي أوائل أيار (مايو) الفائت اتصل غولن بدنيز بايكال، زعيم حزب الشعب الجمهوري سابقاً، معلناً عن أسفه وتضامنه معه، بمناسبة فضيحة الشريط الجنسي المصور التي أطاحته، الأمر الذي قدَّرَهُ له هذا الأخير بلا لبس. ترى ما الذي دفع بغولن القليل الكلام إلى هذين التدخلين في الحياة السياسية التركية، وهو الرجل القوي الذي يحسب له الجميع حساباً بالنظر إلى نفوذه الكبير في المجتمع المدني؟ يرد الباحث دوغو أرغيل الذي نشر كتاباً حول فكر غولن قام على حوارات مطولة معه استغرقت عامين ونصف العام، بأن دافع «الخوجا» يرتبط بجذر فلسفته الإسلامية القائمة على النأي عن الاصطدام ب «أولي الأمر»، أي الدولة والسلطة السياسية. غير أن التصريح ينتقد ضمناً موقف حكومة أردوغان المشجع لقافلة المساعدات الإنسانية على كسر الحصار عن غزة. وهنا يجدر التذكير بأن الخوجا أعطى تصريحه للصحيفة الأميركية قبل الاعتداء الإسرائيلي بفترة قصيرة، لكن الصحيفة استثمرته بعده بما يخدم الموقف الأميركي الذي سعى إلى حماية إسرائيل من غضب الرأي العام العالمي. هذه الإشارة تفيدنا في النظر إلى تصريح غولن من منظور آخر: يبدو أن الرجل توقع النتائج السلبية المحتملة لحملة كسر الحصار على غزة، فانتقدها من منطلق الحرص على الدولة التركية ودورها وموقعها. ففي منفاه الأميركي، يقيم غولن علاقات واسعة مع جهات نافذة في الإدارة الأميركية والكونغرس والإعلام. ولا يخفي الأميركيون إعجابهم بإسلام غولن المنفتح المسالم الذي يرون فيه خير بديل عن الأصوليتين السنية والشيعية في الشرق الأوسط. يتيح لنا هذا أن نفترض أن الرجل استشرف الموقف الأميركي من أي رد فعل إسرائيلي محتمل ضد القافلة. ولأنه لا يرى مستقبلاً لبلاده خارج دائرة الغرب الأطلسي، دفعته خشيته على مستقبل علاقات بلاده مع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً إلى إطلاق تصريحه الغريب. يقود غولن حركة إسلامية تضم تنظيمياً عدداً يتراوح بين المليون والمليونين من الأفراد، وفقاً لتقديرات غير موثقة. وهي جماعة منفتحة ذات إطار مرن، تدمج أعضاء جدداً يمكن أن يستقيلوا منها أيضاً، بخلاف الطرق الدينية المنغلقة على نفسها بروابط عضوية أكثر صلابة. وإذا كان المحدد الرئيس لهوية هذه الجماعة هو دين الإسلام، فمفهوم هذا الأخير لديها يختلف كثيراً عن الإسلام الأصولي. فإسلام غولن وحركته يسعى إلى التصالح مع قيم الحداثة والانفتاح على العالم والابتعاد عن السياسة، خصوصاً عن الاصطدام بالدولة. وفي موضوع الحجاب كان غولن قد اختار الأقل سوءاً بين سيئين، فشجع الطالبات المسلمات على نزع حجابهن للالتحاق بالجامعات التركية، بدلاً من التخلي عن دراستهن الجامعية تمسكاً بالحجاب. ويفلسف «الخوجا» موقفه هذا بالقول إن الإسلام دعا إلى الاحتشام من غير أن يحدد الحجاب أو نوعاً منه بصورة مخصصة. وتسعى الحركة إلى رفع السوية الثقافية والتعليمية لأفرادها وإلى إثرائهم من طريق تشجيع مبادراتهم الاقتصادية. وقد حققت نجاحاً كبيراً في هذا المجال دفع ببعض المحللين الغربيين إلى تشبيه علاقة إسلام غولن بالرأسمالية بعلاقة الأخلاق البروتستانتية بصعود الرأسمالية في أوروبا وفقاً لتحليل ماكس فيبر. لقد تجاوزت حركة غولن تمويل الدراسة الجامعية للطلاب المتفوقين من ريف الأناضول المفقر، في الجامعات التركية أو الأجنبية، إلى مرحلة جديدة لا سابقة لها. فالحركة تشجع هؤلاء على الدراسة في الخارج مع أرجحية بقائهم في بلدان الاغتراب وتأسيس مشاريعهم الاقتصادية في موطنهم الجديد. وتملك الحركة سبع جامعات خارج تركيا، إضافة إلى مدارس لتعليم اللغة التركية ونشر الإسلام المعتدل. ويطمح غولن، بمشروعه هذا، إلى نشر النفوذ التركي خارج الحدود، الأمر الذي بدأ يعطي ثماره في السنوات القليلة الماضية. وهذا النفوذ المسالم و «الناعم» يخشى عليه «الخوجا» من سياسات أردوغان الأخيرة التي باتت تقرِّبه أكثر وأكثر من محور الممانعة، إن لم يكن فعلياً ففي الإدراك الغربي له على الأقل. وبالفعل دفعت تصريحات أردوغان النارية ضد إسرائيل، في السنتين الأخيرتين، وتقاربه مع كل من إيران وسورية، جهات نافذة في الولاياتالمتحدة والغرب، لها حلفاء موضوعيون داخل تركيا من جيش وتيار علماني – قومي متشدد وقضاء أعلى وصيّ على النظام السياسي، إلى تصوير أردوغان وحكومته على أنهما يمثلان الإسلام الأصولي المتحالف مع خط الممانعة. وفي أعقاب الاعتداء الإسرائيلي على قافلة المساعدات الإنسانية، قصد وفد رفيع من قيادات حزب العدالة والتنمية، ضم وزراء سابقين ونواباً في البرلمان، واشنطن في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العلاقات بين واشنطن وأنقرة. وقد قال أحد المشاركين في هذا الوفد: «الأحداث ستطيح بأحد اثنين: إما حكومة نتانياهو أو حكومة أردوغان». الورطة السياسية التي وجدت حكومة أردوغان نفسها فيها بعد الاعتداء الإسرائيلي الذي فاجأها على ما يبدو، تجلت في ارتباك التصريحات والإجراءات المعلنة، الأمر الذي وضع الدور التركي كقطب استقرار وتنمية في منطقة حافلة بالمشكلات، على كف عفريت. على هذه الخلفيات يمكننا قراءة تصريح غولن الغريب.