تحذير: الإحباط يمكن أن نتعلمه من محيطنا الاجتماعي، والخطورة الأكبر أن الإحباط قد يتحول إلى سمة ثابتة في شخصياتنا بعد أن كان مجرد حالات عابرة... وهذا يعني أن هناك ثقافة إحباط لابد من تفكيكها! حين نقول (ثقافة الإحباط) يتخلّق في الذهن تساؤلات عدة من أهمها: - هل (الإحباط) - بوصفه كائناً نفسياً و-أو اجتماعياً - له (ثقافة) ونحن نروم الآن التعرف عليها؟ - هل الثقافة - بوصفها المشكل لشخصية الإنسان والمجتمع - هي التي تصنّع (الإحباط) ونحن نتطلع إلى التعرف على كيفية حدوث ذلك ومسبباته؟ أم أننا كبشر نقوم نحن بإنتاج (الإحباط) ومن ثم تصديره لتلك الثقافة؟ - أم أن هنالك خيارا ثالثا يذهب إلى أن التأثير تبادلي تفاعلي؟ وفي هذه الحالة نتساءل: من يسبق من في التأثير والتأثر؟ من الجلي أن التعاطي مع تلك الأسئلة وتفكيكها أمر معقد، لاسيما إن كنا نروم اجتياز مستويات وصف الظاهرة إلى مستويات تفسيرية لها، غير أن هذا المقام التحليلي المكثّف لا يتيح لنا التوسع كما يقتضيه الحال. قد يكون من الملائم أن نبدأ بمسلّمة هامة وهي أن الثقافة تمنح الإنسان أوراقاً بيضاء ليدوّن عليها ما يشاء، فالثقافة لا تخلق نفسَها بنفسِها، إنما هو الإنسان الذي يوجدها وفق منظومته العقدية والفلسفية والقيمية وطرائق تفكيره، غير أن الثقافة ليست مجرد مخزن للأوراق التي يراكمها الإنسان في أدراجه وزواياه، ولكنها كائن يتشبث بأسباب الحياة كلها، صحيح أن الإنسان هو الذي يغذيها ويرعاها في البداية، غير أنها ما تلبث أن تتوفر على مصادر أخرى للغذاء، فهي تتغذى لتصبح أكبر وأكبر، وتتحرك لتمرّن مفاصلها، وتشعل صراعاً أو حرباً مع هذا أو ذاك وتطفئ ذلك متى غنمت بحصتها (العادلة)، كما أنها تمرض غير أنها لا تموت... كل هذا يعني أن الثقافة (كائن حي) خرج من قمقمه! ولكن الثقافة - مع ذلك - تبقى في محيط سيطرة الإنسان، فهو المغذّي الرئيس لها، ولكنه أي (إنسان) هذا الذي نتحدث عنه؟ هذا خيط جيد، قد يوصلنا إلى شيء ذي بال. هنا نكون أمام لوحة تعكس لنا احتمالات المقصود بذلك (الإنسان) المشكّل للثقافة: إنسان الماضي- إنسان الحاضر، الإنسان الفرد- الإنسان الجماعة، إنسان الداخل - إنسان الخارج... ثم هل كل ما يَصدرُ عن (الإنسان) يصبح ثقافةً؟ الحقيقة أن أولئك جميعاً يسهمون في تشكيل ثقافتنا على نحو ما وبقدر ما، من حيث نشعر أو لا نشعر، نقدّر أو لا نقدّر. ماذا يعني هذا؟ يعني مزيداً من التعقيد، لكن دعونا نحتال على هذه المسألة بمحاولة تبسيطها كما يلي: الثقافة تلتقط كل شيء، غير أنها لا تبقي كل شيء في جوفها، فهي لا تبقي غير المفردات التي «تراكمت» أو «تقادمت» على أقل تقدير، فأضحت متماسكة بطريقة يمكن تخزينها ونقلها في وسائط متنوعة: ِحكم - أمثال - - شعر - قصص - تجارب - نكت... وهنا ينبغي الإشارة إلى حقيقة أخرى، فالثقافة تمنح بطاقات خاصة قد يتمكّن حاملها من أن ُيلصقَ بالثقافة مفردات لا يتوافر فيها شرطُ (التراكمية) أو (التقادمية)... من هؤلاء؟ هم (الرموز الثقافية)، الذين يتوفرون على قدر باذخ من الكارزمية في نظر من ينضوون تحت لواء تلك الثقافة. إذن نحن إزاء أنواع من المفردات الثقافية: مفردات تدخل إلى حيز الثقافة من جراء (التراكمية) أو (التقادمية) ومفردات أخرى تلج من باب (الكارزمية) - كارزمية الفكرة أو الذات أو معاً، وثمة باب آخر أيضاً هو (التقليدية) وذلك بتقليد الآخر في شيء رأت الثقافةُ أن فيه ما يغري على نقله وتخزينه وإتاحته ل (الاستهلاك الثقافي)، على الأقل لفئة معينة، إذ لا يلزم للمفردات أن تكون صالحة للكافّة، وهذا يقودنا إلى فكرة (طبقات الثقافة) و (مستويات الثقافة)، فثمة ثقافة عامة وثمة ثقافات فرعية بحسب الشريحة أو الفئة الاجتماعية - الوضع الاقتصادي- العمر - المنطقة الجغرافية - المذهب أو الطائفة - التعليم والتأهيل... وقد يكون التقليد على المستوى الفردي، وهذا يعني - للأسف - أن (الإحباط) يمكن تعلمه من المحيط الثقافي للإنسان! ومن التحليل السابق، يمكن لنا أن نستنتج - بقدر معتبر من الاطمئنان - أن مصادر (الإحباط) ثلاثة: إحباط متراكم أو متقادم من الماضي، وإحباط تخلّق من جراء كارزمية الرموز الثقافية، وإحباط تأسّس بسبب تقليد الآخر (داخل الثقافة أو خارجها)... ولكن ما هو الإحباط؟ يمكن القول إن الإحباط حالةُ تشعر الإنسان بالعجز أو فقدان الأمل من الوصول إلى غاية ما أو تحقيق إشباع ما... وقد يكون ذلك الشعور واعياً وقد لا يكون، وهو حالة طارئة على الإنسان، فالإحباط ليس أصلاً، بل هو استثناء، غير أنه قد يتحول إلى سمة لازمة، أي أنه يستحيل إلى (الإحباط السمة) بعد أن كان (الإحباط الحالة)، وهنا تكمن خطورة بالغة، حيث ينشط الإحباطُ كفيروس متخصص في الهجوم على جهاز (المناعة النفسية)، الأمر الذي يعني أن الفعل الإنساني معرضُ للإصابة بأمراض التشاؤمية والقلق الحاد والاكتئاب واليأس، وقد تحول اتجاه الضبط أو مركز التحكم Locus of control لدى الإنسان إلى (الضبط الخارجي)، فكل شيء ُيلصق بجهة خارجية، مع إصدار صك تبرئة مطلقة للذات!! وهنا يجب أن نعاود السؤال: ما ثقافة الإحباط؟ وهل مصدرها نحن البشر بأفعالنا وتصرفاتنا أم أن الثقافة لها قابلية إنتاج الإحباط أيضاً - بطريقة تشبه أو لا تشبه طريقتنا - لتقوم بعد إنتاجه بتصديره لنا من خلال بعض الأدوات الثقافية كالتفكير الجمعي والذاكرة الجمعية؟ وفي تلك الحالة هل (الإحباط) سمة للثقافة أم و وظيفة لها؟ قد لا يكون عسيراً علينا - اعتماداً على ما سبق - أن نقرر بأن البشر هم من يعايشون الإحباط وقد يعيدون إنتاجه ... فلربما أعاد إنتاجه (السياسي) الذي يسمح للفساد بأن يتغلغلَ ويكتسحَ المنظومة القيمية ويلغيَ المعايير الدقيقة في الاستقطاب والتعيين والفعالية والإنجاز، وقد يتحول ذلك الفساد إلى (نظام فساد مقنّن)؛ يولّد ذاته تلقائياً ويحمي نفسه بنفسه بطريقة منتظمة ... وربما أعاد إنتاجه (عالم الدين) الذي يقف عاجزاً عن الممارسة التجديدية الإبداعية أو الإصلاح الديني الحقيقي، لائذاً بمبدأ (الأول لم يترك للآخر شيئاً)، ومؤسِساً لقدسية أقوال البشر واجتهاداتهم المؤقتة، على نحو ُيقعِده عن تشغيل عقله بالنوازل والأحداث المستجدة... وربما أعاد إنتاجه المثقف عبر طروحات ثقافية تنسف المنجز أو تكرّس النظرة الدونية للذات، كما يفعل (المثقفون الكارهون ذواتهم)... أولئك المثقفون الذين يخجلون لكونهم عرباً أو هكذا يبدو من متطرفيهم... يعجز الواحد منهم عن ذكر ولو ميزة أو فضيلة واحدة لبني جنسهم من العرب، وإخفاقهم هذا ليس متصنعاً في كثير من الأحيان، بل هو إخفاق حقيقي؛ إخفاق معرفي سيكولوجي، فهم يخفقون من جراء وجود (آلة كبح سيكولوجية) في جهازهم المعرفي، تعمل على طرد كل معرفة (إيجابية) عن الذات، لتبقي تلك الآلة المشؤومة السلبي والسيئ والكريه بتراكمية خطيرة... كما أن الإنسان العادي قد يعيد إحباطه و(إخفاقاته) ويراكمها أمام ناظريه... كل أولئك يدركون نصيبهم من إعادة إنتاج الإحباط على نحو تراكمي ُيغري الثقافة بتخزينها في ملفاتها (الدائمة) أو (المؤقتة)... فإن كانت كمية الإحباط كثيفةً، فإن الثقافة تبتلعها وتتلوّن بها فتصبح (ثقافة الإحباط)، أي أن الثقافة لا تملك في مخزونها ما يشجّع على العمل ولا ما يستفزّ على الإبداع، فإذا ألحّ الناسُ وأصروا على مضاعفة كميات الإحباط وتفننّوا في الإنتاج ونوعوا فيه، فإنه يكون لدينا (الثقافة الُمحبِطة)، وهي التي تتجاوز منطقة (الحياد) إلى تخوم (السلب)، وهنا يتحول الإحباط من كونه (سمة) للثقافة إلى كونه (وظيفة) لها، حيث تعمل الثقافة على تأسيس منطلقات للإحباط، بل ربما تمارس نوعاً من (الشرعنة) أو (العقلنة) للإحباط، وكأنها تقول للناس - مكرّسة نهج الضبط الخارجي المدمر للفعالية-: (تراكم معذورين... فكل شيء في هذا المجتمع يبعث على الإحباط... المشكلة ليست فيكم بل في المجتمع!). وقد يتواطأ الإنسان مع ثقافته، في إبرام عقد، يتبادلون بموجبه منتجات الإحباط عبر عمليات التصدير والاستيراد، وربما عقدوا اتفاقية لحماية أسعار التبادل من تذبذبات السوق، مما يشير إلى انعدام المرونة في التعاطي مع المؤشرات، وبالذات الإيجابية منها!! ولعلنا نختم هذا التحليل المختصر بالتشديد على أن الإنسان لا يكون سوياً ولا منتجاً ولا مبدعاً ولا سعيداً إلا إذا كان يحترم ذاته وبدرجة كافية دونما غرور أو تعال؛ واحترامه لذاته لا يتحقق إلا من خلال انطباع صورة ذهنية إيجابية عن ذاته وقدراته ومهاراته، وإذا عاش الإنسان محتقراً لذاته فإنه يفقد بذلك إرادة الفعل، ليصطبغ ذلك الإنسان ويصاب بالاكتئاب المزمن، وهو حالة مرضية تورث الشعور بعدم الكفاية وانعدام القدرة لينتهي الإنسان في نهاية المطاف في دوائر سحيقة من اليائس والإحباط.. كما أن الثقافة لا تكون فعالة ولا باعثة على الإبداع إلا إذا تخلصت من أدران (الإحباط)، بمفرداتها وبواعثها ومصادرها ومنتجيها!!