نعم.. هم كارهون لذواتهم (العربية) حقاً.. يخجلون لكونهم عرباً أو هكذا يبدو من متطرفيهم.. يعجز الواحد منهم عن ذكر ولو ميزة أو فضيلة واحدة لبني جنسهم من العرب، وإخفاقهم هذا ليس متصنعاً في بعض الأحايين، بل هو إخفاق حقيقي، إخفاق معرفي سيكولوجي، فهم يخفقون من جراء وجود (آلة كبح سيكولوجية) في جهازهم المعرفي، تعمل على طرد كل معرفة (إيجابية) عن الذات، لتبقي تلك الآلة المشؤومة السلبي والسيئ والكريه بتراكمية لا منهجية.. لقد عدموا مجرد القدرة على احترام الذات، بعد أن أعدموا الذات وبدم بارد في ساحة النقد الصارم - توهموا - وما علموا أنهم يمارسون أو يقترفون بالأصح نقداً مميتاً! لقد أوغلوا في التبصر والتحديق وبعدسة مكبرة للعيوب والأخطاء والنقائص في محيط الأنا في ميادين التاريخ والفكر والعقل والأخلاق والسياسة والإنتاجية، وهنا لا إشكالية، بل هو واجبهم المتحتم عليهم كمفكرين ومثقفين، ولكن الإشكالية تكمن في أنهم جعلوا يشيحون بوجوههم عن كل ما هو فضيلة وميزة للعرب، ومثل العرب - على الأقل - في ذلك مثل سائر خلق الله من البشر، إذ يمتاز كل شعب وكل عرق بميزة عن غيره بشكل نوعي أو كمي أو بهما معاً، أما أولئك المثقفون فينفون عن العرب كل ما يحمد من صفات روحية وأخلاقية وعقلية، بشكل يخلو من المنهجية، ويتسم بالانفعال، ويتسربل بالإنشائية المجردة من كل دليل صلب.. ليعيشوا ويعيّشوا غيرهم من الأغرار السذج مرارة حظهم العاثر بكونهم عرباً! والمثقفون الكارهون ذواتهم أصناف وفئات من حيث درجة العمق الفلسفي والمنهجي والفكري ومستويات تأثيرهم ودرجة كارزميتهم الثقافية في الفضاء الثقافي العربي، ولا يهمنا إطلاقاً تصنيف أولئك المثقفين أو تعدادهم ولا بيان أثرهم السيئ بشكل تفصيلي، بقدر ما يهمنا مناقشة الظاهرة وأثرها العام، وقد نعرض لبعض النماذج لاحقاً كنوع من التدليل والبرهنة على صحة تحليلنا، هذا مع تأكيدنا على تقدير الجهود الفكرية لعموم أولئك المثقفين ونواياهم الطيبة وفق منظورهم الخاص في الإصلاح. مصاب بالشلل مَن لا يحترم ذاته! من المسلمات العلمية أن الإنسان السوي لا بد أن يكن لذاته احتراماً كافياً باعتباره إنساناً ذا عقل وإرادة واختيار، إنساناً سوياً مكرماً وقادراً على الفعل والإنتاجية، وتلك بدهية علمية، وفطرة جبل الله تعالى الخلق عليها، كما جاء في الذكر الحكيم :{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} سورة الإنسان (3)، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} سورة الإسراء (70)، وما أجمل ما قاله ابن العربي المالكي في تلك المعاني، حيث يقول:( ليس لله خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً، عالماً، قادراً متكلماً، سميعاً، بصيراً، مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء ووقع البيان بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته) (تفسير ابن العربي، 4-1941). وتأسيساً على ما سبق نقرر بأن الإنسان لا يكون سوياً ولا منتجاً ولا مبدعاً ولا سعيداً إلا إذا كان يحترم ذاته وبدرجة كافية دونما غرور أو تعال، واحترامه لذاته لا يتحقق إلا من خلال انطباع صورة ذهنية إيجابية عن ذاته وقدراته ومهاراته، وإذا عاش الإنسان محتقراً لذاته فإنه يفقد بذلك إرادة الفعل، ليصطبغ ذلك الإنسان ويصاب بالاكتئاب المزمن، وهو حالة مرضية تورث الشعور بعدم الكفاية وانعدام القدرة لينتهي الإنسان في نهاية المطاف في دوائر سحيقة من اليأس والإحباط، فيقعد الإنسان حينذاك عن بلوغ غاياته وأهدافه، وهي حياة أشبه ما تكون بحياة الحيوان الذي لا تحركه سوى غرائزه وبشكل ميكانيكي ليبقى حياً، يتنفس ويأكل ويشرب وينجب! وثمة أثر سيئ آخر للكارهين ذواتهم، يتجسد ذلك الأثر بتمزيق أو تشويه أو بلبلة الهويّة لدى الإنسان العربي، عبر الهجوم اللاعقلاني واللامنهجي على شخصية الإنسان العربي بكل مقوماتها وأبعادها، مما يعيّش شريحة من العرب وبالذات الشباب والشابات ما يعرف ب (أزمة الهوية)، إذ إن الهوية تتشكل لدى الإنسان من خلال الفهم والإيمان والاعتزاز والالتزام بمنظومة من القيم والمثل التي يعتقدون بأنها صحيحة من جهة، وبأنها تحقق لهم قدراً كافياً من الشعور بالاستقلالية والتميز عن غيرهم من جهة ثانية، وبأنها مطبقة فعلياً من قبل مجتمعهم من جهة ثالثة، مع أنهم يستوعبون أن ذلك التطبيق ليس مثالياً ولا كاملاً، بل يعتريه ضعف كمي ونوعي (ويتحقق ذلك الاستيعاب من خلال قيام الثقافة بوظيفتها النقدية بكل منهجية وصرامة). والهوية حتماً تفرز شعوراً ب (الخصوصية الثقافية) والتي تعد ضرورة لتكوين أي مجتمع بشري، مجتمع يؤمن بمنظومة ثقافية واحدة ويسعى إلى تحقيق أهداف مشتركة في فضاء يسوده الحب والتراحم والتعاون. والكارهون ذواتهم يعملون من حيث - يشعرون أو لا يشعرون - إلى تدمير بنية أو صلاحية الثقافة التي تتشكل الهوية داخلها وتقتات من مفرداتها، وهذا التدمير قد يكون مباشراً يلامس الثقافة ذاتها بإطارها العقدي والفلسفي والقيمي واللغوي والحضاري، أو يكون غير مباشر من خلال تدمير بعض محكات صدق أو صحة أو فعالية أو إمكانية تطبيق وتمثل الثقافة من قبل أفراد المجتمع. فمثلاً، ماذا نتوقع أن يكون تصرف شاب حيال ثقافته، تلك الثقافة التي يصورها الكارهون ذواتهم له على أنها ثقافة فشلت في تحقيق أي إنجاز يذكر خلال فترة يسميها الكبار حوله بأنها فترة إصلاحية تمتد لأكثر من مائة عام؟! أخفقت في تخريج المبدعين.. ثقافة ظلت تراوح في مكانها طيلة تلك الفترة لتنتج مجتمعاً دون مرحلة التخلف؟! أي نوع من الهوية يمكن أن يحتضنها صدر ذلك الشاب؟ وأي لون من السلوك نتوقعه منه إن نحن تركنا الكارهين ذواتهم يمررون أطروحاتهم وتعميماتهم المجحفة؟