ثمة من يجعلون اسم المصلحة المتغيرة شرعا مقدسا يناكب حكم الله الثابت بل ربما يهيمن عليه إلى الذين تقوقعوا في صياغات النصوص وحرفيتها دون تبصّر بالقواعد التي تهدي إلى مضامينها وإلى القياس عليها ، فأما الفريق الأول والذين اصطلح على تسميتهم ب ( العصرانين) فمع احترامي البالغ لعمق ما يطرحون إلا أنهم لم يريحونا ولم يريحوا أنفسهم بأن يعلنوا علمانيتهم أو يظهروا مشروعاتهم الحداثية بمعزل عن الدين بل أرهقونا وأرهقوا أنفسهم فراحوا يصوغون لقاحا فكريا غريبا جعلهم ييممون شطر الغرب ومدنيته قائلين عن كل ما يبرق مرآه في أبصارهم : هذه مصالح ثم يلتفتون إلى الشريعة الإسلامية وأصولها قائلين : كل مصلحة هي مرعية شرعا ثم يستولدون من هاتين المقدمتين المتباعدتين لقاحا غير شرعي بناء على اللفق والرقع ليصلوا إلى تحقيق مرادهم ، ولا غرو إن علمنا أن كثيرا من أفكار هذا التيار ما هي إلا مجموعة رؤى تدور في فلك نظرية المعرفة وتنطلق في معظمها من النظرية البوبرية ورؤى فيلسوف العلم المعاصر « كارل بوبر» أحد رواد المدرسة النقدية الحديثة ، لذا كان الفارق بيّنا بين معالجة المفردة الشرعية بأدوات كليّة شرعية ومعالجة المفردة نفسها بأدوات الانثروبولوجيا ، والأخيرة هي ما اتخذت كمنهجية طاغية متلازمة من قبل مفكري ذلكم التيار الآنف الذكر، أما الفريق الثاني والمتمثل في فريق عريض من فقهائنا المعاصرين ، فليت شعري لو أن هؤلاء قد تمثلوا بما تمليه عليهم مذاهبهم ، أو على الأقل تشبثوا بالأدوات المعرفية الرائقة التي استندت إليها تلك المذاهب ، فنجم الدين الطوفي الحنبلي له نظرة مصلحية فريدة ، أودعها في رسالة له سماها نظرية المصلحة ، يتجلى الجمال الذي فيها عبر العقلية الحنبلية التي خلقتها ، ومع أن الشيخ البوطي قد أوعب كثيرا في الرد عليها ضمن تضاعيف رسالته للدكتوراة إلا أنها ظلت تحافظ على رونقها الخاص بها . علينا أن نقول إن للمصالح الشرعية والمعاني الغائية الأثر البالغ في تطبيق الأحكام الشرعية في الواقع المعاش ، إذ إن حصول هذه المعاني وتلك الحكم لهو أكبر دليل على صحة جريان تلك الأحكام على مقتضى مصالح الشارع العام في ظل تغير الظروف والأحوال ، فالأصل في جريان الأحكام في واقعها التطبيقي أن تكون محالة على العلل والأسباب المعتبرة بها ، فكانت الأخيرة هي الموازين التي يوزن بها مدى تحقق المقصود الشرعي في الواقعة النازلة، ولهذا اعتبر ابن تيمية أن هذه العلل وتلكم الأسباب هي الميزان الذي أنزله الله مع الكتاب لتحصيل القسط والعدل وتعريفه في الخلق . وحينها يظهر لنا وبكل وضوح أن الاستمرار في تطبيق الحكم مع الإقضاء الضرري الغالب حالاً أو مآلاً معارض لمقصود الشارع وراجع عليه بالمخالفة ، وفي هذا يقول ابن القيم « الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ، ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الحرمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل» .. وعليه فإن طروء عوارض الحرج الغالب والفساد الراجح على تطبيق الأحكام الشرعية يجعل هذه العوارض موانع تمنع اقتضاء العلة لحكمها ، فتكون العلة مجانبة للمقصود الشرعي بل وفي حكم العدم ، لأن إجراء الأحكام وتطبيقها في ظل هذه العوارض سيختل معه معيار العدل ( وأصدق مثال على ذلك ما قام به النميري من تطبيق أحكام الحدود الشرعية على شعب بائس فقير) .. وأما بخصوص ما يردده بعض الباحثين الشرعيين من أن دائرة الثوابت تتسع لتأخذ في حيزها النصوص القطعية من جهة الثبوت والدلالة وما ورد إلينا من اجماعات الأمة واتفاقاتها وما ورثناه من المنظومة القيمية الأخلاقية، فهذا كله لا دليل له ينتهض به ، كيف هذا يكون وابن تيمية نفسه قد شنّع على علماء عصره الذين سبروا الدين دون الولوج في عمق غوره فقسموه إلى قطعي وظني وإلى أصلي وفرعي ، لقد صرح ابن تيمية في فتاويه وفي أكثر من موضع بأن هذه القسمة إنما هي حادثة وليست قائمة على أساس ركين ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك إذ نسبها إلى المعتزلة ومن شايعهم ، وفي هذا السياق نجد كتابات عدة قد تأثرت بذلكم التقسيم منها على سبيل المثال كتاب الدكتور صلاح الصاوي ( الثوابت والمتغيرات) وكتاب الدكتور عابد السفياني (الثبات والشمول) علاوة على ذلك فقد اتصف كل منهما بتناوله الموضوع تناولا عاما بعيدا عن منطقه الأصولي الدقيق . إن مصطلح الثبات في التناول الشرعي له عموم وخصوص ، فمن جهة العموم يطلق ليقصد به كليات الشريعة الثابتة ككل متكامل إلى قيام الساعة بنص القرآن ، وأما من جهة الخصوص فهو يعني أن التطبيقات الشرعية ثابتة من وجه ومتغيرة من أوجه عدة وفي هذا كلام ولا أروع منه للجويني يقول فيه : « لا أبتدع ولا أخترع شيئا ، بل ألاحظ وضع الشرع وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه ، وهذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة ، التي لا توجد فيها أجوبة للعلماء معدة» ، والعجب كل العجب من أولئك الذين يقحمون تحت مصطلح الثبات ما هو معلوم من الدين بالضرورة ثم تراهم بعد ذلك يستثنون أمورا كثيرة ، ولنأخذ الصلاة على سبيل المثال فهي في مذهب مالك تسقط عن فاقد الطهورين ، ولا يقضيها عند الجميع من أغمي عليه مدة طويلة ، وتقصر مرة وتجمع مرة وتسقط مرة ... إلخ ، وينسحب ذلك على منظومة القيم والأخلاق ، فالكذب قد اتفقوا على جوازه في الحرب وعلى إباحته للزوج على زوجه إلى آخر ما هنالك. إذًا الثابت بعد سفرنا اللثام هو الوصف المؤثر أي العلة فقط ، وهنا تكمن ديناميكية الشريعة ، حيث إنها جاءت مقررة للأحكام ضمن وقائع معينة وأما في غيرها فلنا أن تعمل تحت مظلة الكليات الشرعية المعروفة (حفظ الدين ، والنفس ، النسل ، العقل ، المال ) وانتقالا بين مستويات الضرورة ، الحاجة ، التحسين. [email protected]