وهكذا نجد علماء الإسلام يميزون بصورة واضحة بين قطعيات يقينية مطلقة وظنيات نسبية تتباين فيها العقول والأنظار وتختلف من الخطأ أن يسبق إلى الأذهان أن الفكر الإسلامي يتجاهل أهمية النسبية أو يقلل من أهميتها، ولهذا فإن من المقرر أن أكثرية أحكام الشريعة في الفروع هي من الظنيات التي يمكن القول بأنها نسبية للاختلاف فيها، أما أركان الإيمان والإسلام، والكليات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، ومبادئ الأخلاق كالعدل والصدق والرحمة والعفة، وكل ما كان مجمعًا عليه من الأوامر والنواهي، إجماعًا قطعيًا لا مدخل للاختلاف والاحتمال فيه فهو من الحقائق المطلقة، وهذه الأصول والمبادئ هي من حيث الكم تعد الأقل موازنة بتفاصيل الشريعة وفروعها الأخرى التي يرد فيها الاختلاف وتعدد الاجتهادات وتباين الآراء. فعلماء الإسلام يرون أن هناك حقائق مطلقة ثابتة بنفسها، مع اعترافهم بأن للنسبية مجالها المهم فلا يتم التغاضي عنها أو إنكار مكانتها. وقد قرر ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه الرد على المنطقيين، كلامًا مهمًا حول فكرة النسبية منتقدًا بذلك غلو المناطقة ومن تابعهم من الإسلاميين في إثبات الحقائق المطلقة، فقال -رحمه الله- بعد أن صرح بأن الخفاء والظهور من الأمور النسبية التي تتباين فيها الأنظار: (وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال، وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا، وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال، ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى، وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا). وكذا تلميذه ابن القيم صرح بأن (كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك والمستدل، ليس هو صفة للدليل في نفسه.. فقد يكون قطعيًا عند زيد ما هو ظني عند عمرو). ولكي نقرب المعاني أكثر نقول: إن علماء الإسلام يقسمون الحقائق إلى قطعيات مطلقة لا مجال للاختلاف فيها وظنيات نسبية تقبل الاختلاف وتعدد الاجتهادات والآراء (والمقصود هنا تقريب المعاني لا الصرامة المنهجية في استعمال المصطلحات): فهناك محكمات مطلقة لا يقع خلاف في فهم مضامينها، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر ووجوب الصلوات الخمس وتحريم الزنا والسرقة وقتل النفس بغير حق، ويقابلها المتشابهات النسبية مثل احتجاج المرجئة ببعض آيات القرآن على أنه لا يضر مع الإيمان معصية، أو احتجاج الخوارج ببعض آيات القرآن بخلود مرتكب الكبيرة ونحو ذلك، فهذه النصوص اشتبهت معانيها عند البعض والتبس معناها الصحيح الحق بمعنى فاسد باطل، وهذا التشابه لا يكون في أصل الآيات، وإنما سببه نظر الناظر أي إدراك بعض البشر، والإدراكات تتفاوت في عمق الفهم وسلامة المنهجية في جمع أطراف النصوص وصحة القصد وتحقق الشروط وانتفاء موانع الفهم الصحيح، وأما البعض الآخر فلا تشتبه عليه ويعرف المدلول الصواب الموافق للحق، ولذلك يكون التشابه نسبيًا يختلف من شخص إلى آخر، وهذا المعنى المهم الذي يعد قاعدة كلية في فهم آيات القرآن، ويؤكد على وسيلة أهل الرسوخ في العلم في عرض المتشابه على المحكم الكلي، أو بمعنى آخر فهم النص المتشابه المتضمن لشبهة ما برده إلى الأصل الواضح والقاعدة الكلية، وهذه المنهجية المهمة في فهم القرآن الكريم بل في فهم نصوص الشريعة بأسرها، قررها الخالق عز وجل في أول سورة آل عمران في قوله سبحانه وتعالى "الّم. اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ" وهكذا نجد علماء الإسلام يميزون بصورة واضحة بين قطعيات يقينية مطلقة وظنيات نسبية تتباين فيها العقول والأنظار وتختلف، كذلك يميزون بين مسائل هي محل الإجماع القطعي ومسائل الاجتهاد والاختلاف، هذا التمييز هو الذي يعبر عنه بعض العلماء المعاصرين بالثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية. وإعمالًا لتطبيقات النسبية لدى علماء الشريعة، عبر بعض فقهاء الحنفية بقولة مشهورة: (مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب)، وهذا خاص بفروع الفقه لا محكمات الشريعة ويقينياتها التي أجمعت عليها الأمة إجماعًا قطعيًا. ومما يكثر الاستدلال به على أن الرسول عليه الصلاة والسلام أقر نسبية الأفهام واختلافها في فهم وإدارك كلامه، ما ورد في الحديث الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: ((لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ)) فاجتهد بعض الصحابة رضوان الله عليهم وصلوا العصر في الطريق وقالوا: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا ونظروا إلى ظاهر اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس، وهذا بلا شك إقرار بنسبية الأفهام واختلافها، فعدم تعنيفه عليه الصلاة والسلام لأحد الفريقين دلالة على إقراره بذلك، وإلا لنهى أحد الفريقين عن فعله فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو متقرر ومعروف في علم أصول الفقه، مع أن الصواب واحد ولا يتعدد، والظاهر أنه مع الذين صلوا في الطريق لأنهم أعملوا نصوص مواقيت الصلاة مع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الإسراع ويظهر ذلك أنهم فهموا من قرائن الحال والمقال أنه عليه الصلاة والسلام: (لم يُرد منا ذلك) وهذا هو الظاهر والله أعلم. ويتعرض علماء الأصول لمسألة وهي: هل الحق يتعدد في الأصول؟ والذي يذهب إليه العلماء بلا اختلاف معتبر بينهم، بأن الحق واحد في ذاته لا يتعدد، والمجتهد المخطئ بعد بذل الوسع معذور وغير آثم. وأما تعدد الحق في الفروع، فالجمهور على أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق واحد في ذاته، والمجتهد في طلب الحق إذا أصاب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر، ولا يأثم إذا تحققت شروط الاجتهاد فيه وبذل وسعه في طلب الحق. ومن ميادين العمل بالنسبية، ما نبه عليه ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين بقوله: ((فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد)) ثم وضح -رحمه الله- أن هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. وبما تقدم يظهر لنا أن مبدأ (النسبية) مبدأ مقبول في نظر علماء الإسلام ومعمول به ولكن في حدوده، فلا ينفون النسبية مطلقًا، ولا يعممون العمل بها بلا استثناء، وهذا التوازن الوسطي هو الأقرب للمنهج العقلي الموضوعي الذي يدور مع الدليل العلمي وجودا وعدما، فتعطى النسبية بمرونتها المهمة مجالًا كبيرًا في الأطر التي تناسبها وتحجب عن المجالات التي تتصادم فيها مع الحقائق المطلقة.