لا أزال أُسائل نفسي دوماً، هل بإمكاننا، أن نعيد كتابة تراجم العظماء والمشاهير العرب، بأسلوب آخر، يختلف تماماً عن الأسلوب المعهود الذي نكتب به الآن. هذا سؤالٌ يراودني كثيراً، وهو جدير بالطرح، لأن من يطلع على تراجم العلماء والأدباء الغربيين سيجد بوناً شاسعاً بين طريقتهم وطريقتنا، لأنَّ طريقة كتابة الترجمة عندهم تنطلق أساساً في كونهم لا يكتبون التراجم بوصفها وثائق، وإنما يكتبونها بوصفها قدوات أيضاً، كما أنهم أيضاً لا يكتبونها بوصفها أساطير البتة، وإنما يكتبونها بوصفها شخصيات عادية استطاعت التغلب على الظروف المحيطة بها. إن الكثيرين منا لا يزالون يعتقدون بأن تراجم الرجال التي تكتب ليست إلا توثيقاً وحسب، بيد أن الغاية الحقيقية من وراء ذلك - كما هي عند الغرب - هي خلق قدوات يمكن أن يحتذى بها في المستقبل، هذه القدوات يشترط لها أن تكون غير معصومة، بحيث يمكن للأجيال الاستفادة من تجاربها، وبدون أيِّ تنطُّع أو تشدد، وبحيث يرونها تخطئ مرة وتصيب أخرى، وتنجح تارةً وتفشل أخرى، هذا ما يجب أن يحدث في التراجم، وإلا ما الفائدة منها. نحن لا نريد من قدواتنا أن تكون معصومة، ولا أن تكون مقدسة، فالعصمة والقداسة ليست إلا للأنبياء، وإنما نريد منها أن تعكس طبيعة الإنسان وحسب، وإذا لم تفعل ذلك فهي سوف تساعد على التخلف حتماً. أجل، إن ما يجب أن يكون، هو أن تعترف كتب التراجم، بأخطاء العلماء والمبدعين سواءً النفسية منها أو العلمية، وحتى لو كان المترجَم له: ابن سينا، أو الكندي، أو النووي، أو السيوطي، أو ابن خلدون، أو أحمد زويل، أو الجابري، أو محمود درويش، أو الغذامي، أو غيرهم، يجب أن تعترف كتب التراجم بذلك، حتى يطلع الناس على قصورهم، وحتى لا يعتقدوا بأن العلماء مطهرون من الزلل. إننا ومع كل أسف، لا نُظهِر الأخطاء غالباً إلا على الأعداء، وعلى الأعداء فقط، وذلك حتى يزهد الناس فيهم, ويهجروهم، ويتخلوا عن آرائهم، فعندما تريد كتب التراجم أن تعرِّفنا على شخصية تاريخية كالشهرستاني مثلاً، أو دعونا من الشهرستاني، هناك عالم جليل، برع في علم الفقه، يقال له ابن حزم، هذا العالم صَوَّرته كتب التراجم، على أنه ارتكب خطيئة اجتماعية، بغض النظر عن صحة كونها خطيئة أم لا، هذه الخطيئة المزعومة تتمثّل تحديداً في تعلمه للفلسفة، حيث حورب أبو محمد، وأوذي، إلا إنه استمر في ممارسة هوايته التي هي الفلسفة، والتي هي خطيئة كبرى لدى المترجمين الأوائل، فبدلاً من أن يستفيدوا - هم كمترجمين - من هذه الحادثة، بحيث يجعلونها رمزاً للصبر والتحمل والإخلاص، صارت ثغرة يلج منها كل من يرغب في النيل من هذا العالم الجليل، لقد كان بمقدورنا أن نجعل ابن حزم قائد نهضة، ورجل إصلاح، بيد أن ذلك لم يحصل. قد يخرج علي البعض ويقول بأنني أقصد من هذه الدعوة الصريحة، أن تكون تراجمنا مجلساً من مجالس الغيبة، لا، أبداً، أنا لا أقصد ذلك، أنا لا أريد ذكر المعاصي أو الكبائر التي ارتكبت من قبل المترجم لهم، إنما أردت أن يُكْشَفْ للناس جانب الضعف فقط، والمتمثل في طبيعة كل إنسان كائناً من كان.