تقنن القرارات التي تتخذ اليوم عالميا طريق المستقبل للبشرية كما لو أنها ترسم على لوحة بيضاء، أو كما لو أن أحدهم يوزع تركة، لا باعتبار الحاجة أو النصيب المفروض، إنما خوفا من سوء الاستخدام. هذا هو بالضبط ما تصنعه الولاياتالمتحدة وهي تفكر في حبس رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة عن العالم وهي تفرض قيودا جديدة على التصدير. لم تعد رقائق الذكاء الاصطناعي سلعة مثل غيرها، وهي المكون الأهم لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي، لكن ينظر لها كأسلحة في سباق عالمي عالي المخاطر للتفوق التقني. تعمل إدارة بايدن على نظام متدرج يمنح الوصول الكامل إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لحلفاء الولاياتالمتحدة، ويمنع وصولها إلى الصين وروسيا ومثيلاتها تماما، لكنه يفرض حصصا على معظم البلدان الأخرى. المبرر كما هو معروف واضح: حماية الأمن القومي ومنع إساءة استخدام التقنية لزعزعة الاستقرار العالمي أو انتهاك حقوق الإنسان. ومع ذلك، مهما كان المبرر، فالسيطرة على التقنية ليس جديدا بل نعرف عواقبه، إنما العجيب كيف لم نتعلم من الدروس السابقة، حينما أدت السيطرة على القوة النووية إلى سباق تسلح عالمي خرج عن السيطرة. صدور قرار إدارة بايدن وهي تعد عدتها للرحيل، ينذر بعواقب تضعف قيادة الولاياتالمتحدة في مجال التقنية وتنفر شركاءها المحتملين. لنفكر في عواقب القرار على منطقتنا مثلا، حيث نستثمر في المملكة والإمارات بكثافة في الذكاء الاصطناعي للاستثمار في بنية تحتية متطورة لتنويع الاقتصاد. عندما توضع قيود على منطقتنا، ماذا يتوقع أصحاب القرار في واشنطن، إذا علموا أن الاستثمار في البنية التحتية لن يتوقف، سوى أن تفتح فرص لمقدمي خدمة بديلين. على سبيل المثال، تقف الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ، مقدمة تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، بما يفتح لها المجال تشكيل المشهد التقني العالمي لصالحها. علاوة على ذلك، ستضر القيود بالشركات الأميركية مثل انفيديا، التي تهيمن على سوق رقائق الذكاء الاصطناعي عالية الأداء. وقد أعربت انفيديا فعلا عن قلقها، محذرة من أن التحولات المفاجئة في السياسة يمكن أن تضر بالنمو الاقتصادي وتقوض الميزة التنافسية لأميركا. من خلال خنق السوق العالمية لمنتجاتها، قد تبطئ الولاياتالمتحدة عن غير قصد تقدمها التقني، مما يمنح الخصوم فرصة للحاق بالركب. إذا كان الهدف كما يقال مصلحة الجميع، يمكن تحقيق التوازن بين حماية الابتكار والتخفيف من المخاطر. بدلا من القيود الشاملة، يمكن لأميركا التعاون مع الحلفاء والدول المحايدة لوضع مبادئ توجيهية أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. لا ينبغي أن تصبح ضوابط التصدير، رغم ضرورتها أحيانا، طلقة في قدم الاقتصاد الأميركي وهو محاط بعالم حريص على احتضان الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي. لعل العالم يسأل الإدارة الأميركية الحالية قبل أن تغلق آخر باب وراءها في البيت الأبيض: يا صديقي، لك وإلا للذيب؟