تؤرقنا دائماً مسألة الترجمة؛ يتساءل الناس، يا ترى هل ما نقرأه هو ما يريده المؤلف؟ أم أن المترجم لم يفهم المؤلف كما ينبغي؟ والتيه الذي يتسبب به المترجم وصفه عبدالرحمن بدوي قديماً بأنه يعود إلى تعنّت المترجم ليبرز ذاته، أو ليمرر استقلالية مصطنعة. لفت نظري - في كتاب «جاك دريدا والتفكيك»، الذي حرره أحمد عبدالحليم عطية، والذي طبع أخيراً 2010 - أنه وقع في الفخّ نفسه، إذ استعاض عن المشهور بالمغمور وهذا يلبّك القارئ ويشتته. «الترجمة» هي الوسيلة الأبرز للاحتكاك الإيجابي مع أي ثقافة أخرى، والانكفاء على الذات ضد الترجمة يعني نفي الذات بمحتوياتها خارج الزمن، والتجربة العربية القديمة مع الترجمة تجربة مهمة، ففي معرض الحديث عن «العقائد» مثلاً في الأدبيات الكلاسيكية يتعرض عمل مشروع الترجمة الذي افتتحه المأمون لهجوم شرس، وتعزى إليه كل الانقسامات المذهبية التي تلت ذلك المشروع، بينما لا يلتفت إلى الثمار الإيجابية التي جاءت من تلك «الترجمة» ومنذ ذلك الوقت ومشروع الترجمة يرتبط دائماً بالحديث عن الهوية والانكفاء على الذات ويرتبط الحديث عن الترجمة بالرقابة على ما يمكن ترجمته، ومن جانب أعنف يتم إقصاء من يقوم بترجمة الأعمال المغضوب عليها في الغرب، لذا بقيت الكتب المثيرة والمهمة التي أثارت ضجيجاً في الغرب بمعزل عن «الترجمة»، وأصبحت الترجمة الآن في العالم العربي في حال ارتباك حاد وأصبحنا إزاء فوضى «دلالات» وفوضى «ترجمات». من أبرز الإشكاليات التي تعترض عمل الترجمة الفلسفية – وهي مثار حديثي هنا - انتشار الترجمات الحرفية على حساب الترجمات البحثية العميقة، إذ تتطلب الترجمات البحثية مترجماً واعياً بما يقرأ، فالفيلسوف حينما يُترجم عملاً فلسفياً ينتج إبداعاً إضافياً، تتجلى الترجمة هنا بوصفها تأويلاً يضيف على النص الأصلي نصاً حديثاً، إذ تتحول الترجمة البحثية إلى عمل فلسفي فاخر، نجد هذا في ترجمة فلاسفة فرنسا مثلاً لأعمال كانط وهيجل خصوصاً وذلك لوعورة عباراتهما، غدت تلك التراجم أقرب إلى الشروحات، فاستفاد منها حتى الألمان أنفسهم، وتلك هي خاصية الترجمة البحثية التي يمارسها صاحب الاختصاص، ونتذكر هنا عتب عبدالرحمن بدوي على الذين ينشغلون بالفلسفة من «العرب» عن الترجمة تحت دعوى انشغالهم بتأسيس «نظرية مستقلة» لينتهي بهم المطاف بلا ترجمات ولا نظريات جديدة، ولعل الترجمة البحثية تعتبر من أقل الترجمات في العالم العربي على الإطلاق. ومن أبرز علامات الارتباك الذي يسود في «الترجمات الفلسفية» الفوضى في ترجمة المصطلحات، فبعض المصطلحات يكتبها كل مترجم بلفظة مختلفة، مع أن الكلمة المترجمة واحدة، وتلك الفوضى الدلالية لا يمكن أن تنتج «ترجمة ناجحة»، خصوصاً أن الذين يترجمون بعض الأعمال لا يأبهون لترجمات غيرهم ولا يستفيدون منها، وتظل الترجمات تراوح مكانها، فكل مترجم يحرق الكتاب الأصلي بترجمة سريعة قد تؤثر على فهم القارئ للنظرية الأصلية، وهذا يعود إلى الاجتهاد الفردي الذي يسود عمل الترجمة، خصوصاً في الكتب والحوارات الصغيرة التي لا تجد من يوليها الاهتمام نفسه بالكتب الكبيرة التي تضم نظريات مستقلة بذاتها، وهذا يتطلب جهداً مؤسسياً. إذا كان الألمان أعجبوا بلغتهم فلأنهم آمنوا أن لا ثقافة وطنية إلا عبر الانفتاح على كل ما هو غريب، وجوته الألماني المنفتح على الثقافات رأى أن «اللغة الألمانية اكتسبت قوتها لا من إقصاء الغريب وإبعاده وإنما من ابتلاعه وتملكه». ذلك أن الترجمات تسرّع من التواصل المأمول بين الثقافات، خصوصاً أن خطاب الانكفاء على الذات يتصاعد حتى بعض أدعياء الانفتاح يقفون ضد مشاريع الترجمة. [email protected]