بينما كانت بيروت تلملم نفسها غداة الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، ناهضة من الخراب الكبير الذي حلّ بها، كانت «اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع» تعمل على إصدار كتاب «الاعترافات» للكاتب الفرنسي جان جاك روسّو في ترجمته العربية التي أنجزها الكاتب اللبناني خليل رامز سركيس. لكنّ صدور هذه الترجمة التي لا يمكن إلا وصفها بالبديعة والفريدة، لم يلق الصدى الذي يليق به، بصفته حدثاً أدبياً وثقافياً كبيراً نادراً ما شهدت حركة الترجمة العربية ما يماثله ويضاهيه. وظلّت هذه الترجمة أو بالأحرى هذه الصيغة العربية ل «الاعترافات»، وقفاً على قلّة من الكتّاب والقراء، ولم تخرج الى العلانية ولم تنل حقّها الذي تستحقّه، في الصحافة والنقد... وكان يجب انتظار زهاء ثلاثين عاماً كي تخرج هذه الترجمة من أدراج الذاكرة، وخزانة «اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع» التي لم يُقدّر لها أن تستمرّ بعدما قدّمت بضع «روائع» في حقل التعريب، وفي مقدّمها «الاعترافات». والبادرة قامت بها «المنظمة العربية للترجمة» التي أعادت إصدار هذه الترجمة، منتهزة الذكرى المئوية الثالثة لولادة المفكر الفرنسي الكبير (1712-1778) التي تحتفي بها أوروبا هذه السنة، مسمّية إيّاها «سنة روسّو». وارتأت المنظمة أن تعهد شأن إصدار الطبعة الثانية هذه الى الأكاديمي التونسي عبدالعزيز لبيب، فصحّح ما ورد فيها من أخطاء طباعية وخصّها بمقدّمة وافية، امتدح فيها الترجمة وصاحبها، امتداحاً نقدياً وموضوعياً. وكان يجدر ألاّ يوصف عمل الباحث ب «المراجعة»، فلا أحد يمكنه أن «يراجع» نصّاً ترجمه (بل عرّبه) خليل رامز سركيس، فهذا الكاتب معروف بأمانته وصدقه وخلقه العالي، مثلما هو معروف بدأبه ومراسه الصعب، وسعة معرفته وعمق تضلّعه من اللغتين، الفرنسية والعربية. لكنّ الباحث التونسيّ أدرك مسبقاً تبعة مهمّته التي ألقتها المنظمة عليه، فكتب في قبيل ما يشبه الاعتذار المضمر، قائلاً إن ما رآه من «تنقيح» في ترجمة سركيس ليس سوى مساهمة منه «في تكريم هذا الأديب وهذا الكاتب الكبير وهذا المترجم الفريد». واعترف أيضاً، أنّ محاولته لا تأتي «من باب التصويب بل من باب الاجتهاد في التأويل». إلا أنّه، في حديثه عن «تبديل» في النصّ لم يجترئ عليه لولا ما يسمّيه «وضعاً متخيلاً»، لم يبرز لنا – نحن القراء – تبديلاً ولو واحداً مما أجراه في النص، ما خلا بضع إشارات شرح فيها بعض أسماء العلم، على غرار ما فعل سركيس نفسه. والخشية أن يكون هذا «التبديل» اعتداء على لغة سركيس الرائعة، فالباحث فاتته أخطاء في المقدّمة مثل استخدام «معاً» في غير معنى «المعية» كأن يقول: «صاغها سركيس في ثوب عربي شفاف ومعقّد النسيج معاً»، والصحيح أن يقول: «في آن «عوض» معاً». وأخطأ أيضاً في جملة «ذات الوقت» والصحيح «الوقت ذاته»، فالتوكيد يجب ألا يسبق الموكّد... أعوام وأشهر لئن كان جان جاك روسّو أمضى نحو خمسة عشر عاماً في كتابة «الاعترافات»، هذه السيرة الذاتية الملحمية الضخمة، بجزأيها وصفحاتها التسعمئة، فإنّ سركيس قضى، كما يعترف في مقدّمته، «شهوراً موصولة السعي والأناة»، معايناً هذه «الاعترافات»، ومعايشاً صاحبها، وملابساً إياه، مقاسياً شبه ما قاسى من «قلق الفطرة وكدر المزاج». ويصف نفسه حيال النص الأصل ب «الممثل» الذي «تخلّى عن نفسه الى حين فجعل يؤدي دوره ويفنى فيه». لم يترجم سركيس روسّو من خلال «المسافة» التي تفترضها الترجمة بين المترجم والكاتب، بل هو تماهى، كمترجم، في روسو الكاتب، تلبّسه وحلّ محلّه وكأنّه قرينه، وعمد الى التقاط نَفَسه ليجري عليه ما استطاع. إنها الترجمة وفق «النَفَس» إن جاز القول، أو من خلال النَفَس، الذي يعني في ما يعني الإيقاع والدفق والتقطّع... وقد حرص سركيس على «أصولية» روسّو الغنائية مثلما حرص على ألا يُسقط من «الاعترافات» أيّ فقرة أو عبارة، على رغم أنّ الزمن عفا عن صفحات وصفحات منه، ويقينه أنّ «الامانة العلمية أمانة في ذمة المترجم». إلا أنّ الأمانة في معجم سركيس لا تعني الخضوع التام للنص والانسياق له أو الاستسلام، بل هي تعني أيضاً المواجهة أو «المقارعة» إن صح القول. إنها مواجهة الأنا للآخر، مواجهة القرين للشخص. انها المواجهة التي يتماهى فيها المترجم بالكاتب. وكم أصاب الناقد الأكاديمي هنري عويس عندما استخدم، لدى كتابته عن ترجمة «الاعترافات»، هذه العبارة: «جان جاك سركيس يترجم خليل رامز روسّو الى العربية». ومثله سأل عبدالعزيز لبيب في «تصديره» الطبعة الجديدة: «مَن الكاتب الأصلي ومَن المترجم الناقل؟». أما شخصياً، فأعترف أنني لم أستطع أن أقرأ «الاعترافات» كاملة في الأصل الفرنسي، على رغم أنني بدأت بها على مقاعد الدراسة. رافقتني «الاعترافات» أعواماً ولم أرغب في اختتام قراءتها، وظللت أقفز من فصل الى فصل، مسقطاً صفحات ومقاطع... إلا أنني عندما وقعت على الصيغة العربية التي وضعها سركيس لهذا الكتاب، قبل عشرة أعوام، أكببت على قراءته كاملاً، متجاهلاً حال الملل الذي كانت توقعني صفحات كثيرة، بخاصة تلك التي يسرد فيها روسو ذكرياته التي لا تعني أحداً سواه، والتي يُغرق فيها، في التفاصيل والهوامش. وجدت في ترجمة سركيس – أو صيغته – «مدرسة» وليس انجازاً عظيماً فحسب، ورحت أتعلّم على هذا النص، فنّ الترجمة وأسرار اللغتين، العربية والفرنسية. وكم كنت أدهش، عندما أقارن بين مقطعين، في الأصل والترجمة، ببراعة هذا الأديب، النهضوي الجذور، المشبع بجماليات العربية، بلاغة وبياناً، والمتمرّس في السبك والنسج والصوغ، برهافة لا تخلو من متانة، وببراعة ملؤها الشفافية. وما برحت حتى الآن، أعود الى هذه «الاعترافات» التي وضعها سركيس بالعربية، عودتي الى أمهات الترجمات العربية الجليلة التي أنجزها أدباء كبار من أمثال ابن المقفع (كليلة ودمنة)، ابراهيم اليازجي (الكتاب المقدّس)، المنفلوطي (الاقتباسات الروائية)، طه حسين، فؤاد كنعان (أوجيني غرانده)، أدونيس (سان جون بيرس)، الأب فريد جبر (تاسوعات أفلوطين)، علاوة على ترجمات كاظم جهاد وبسام حجار وسواهما من المحدثين. هذه الترجمات هي أشبه ب «مدارس» يتعلّم المرء فيها ويظل يتعلّم، يقرأها باستمرار فلا يكلّ ولا يملّ. صداقة عميقة لم يكن سركيس غريباً عن روسو البتة. قرأه باكراً وألمّ بعالمه وقضاياه وأسراره، ووقف على لغته كما تجلّت في «الاعترافات» و «أحلام يقظة المتنزه المنفرد» وعلى فكره أو فلسفته التي حملتها كتب مثل «إميل» و «العقد الاجتماعي» وسواهما. لقد أُشبع سركيس بروسو قبل أن يباشر في تعريبه. هذا ما تنبئ به المقدّمة التي وضعها ل «الاعترافات»، متحدّثاً فيها عن روسو كما عرفه هو وفهمه، وليس كما ورد في الكتب الوافرة التي تناولته وما أكثرها. وفي رأيه أن «الاعترافات» ينتسب الى روائع كتب السيرة، لكنّه في بعض نواحيه، يقترب من المذكرات «التي تروي أياماً معيّنة...». وفي «الاعترافات» كما يقول، «صور جمّة، أناس وديار قد وصفت وصفاً شاع في أوروبا، ولا سيّما في فرنسا، منذ القرن السابع عشر...». ثم يُغرب في تحليل شخصية روسّو والوقوف على حقباته وما أصابه من أحوال. فهو «سليل وراثة مركّبة العقد، قد جبل على طبع مرهف التأثر، عملت فيه الطبيعة وعناصرها بقدر ما عملت فيه الأخيلة والأوهام». ويتحدّث عن «أزمة الحذر والخوف» التي عاشها روسو، والتي تكرّرت، بعد ما كابد من «ضروب الاضطهاد». ويرى أن روسو كلّما «كاد يغرق في سويدائه، كان ذكاؤه ينقذه منها»... أما فعل «الاعتراف»، فيرى فيه سركيس «حاجة» ماسّة لروسو يكفّر فيه عن ذنوبه. وجد خليل رامز سركيس في روسّو «قلماً كلاسيكياً» كما يقول، ورائداً للرومنطيقية «بما لها وبما عليها في أسلوب الإنشاء». أمّا عبارة روسو فهي «متداخلة الأنفاس، على تنهّد سيّال الشعور، حتى كأنّها شجر البكاء». ويضيف: «فإذا ارتاح قلبه، لان قلمه، فصفا، فاسترسل فسلس فلم تتعسّر ترجمته بالعربية. وإذا اضطربت نفسه، اشتدّ قلمه، فاعتكر، فانقبض، فتعقّد، وحينئذ فالويل للمترجم». كتب سركيس في المقدّمة عن روسّو، كما خبره وعاشه، لكنّ مقدّمته لم تخلُ البتة من المقاربة النقدية والتحليل. لكنّه لو عاود الكتابة عنه اليوم لأضاف اليها وزاد، بخاصّة بعدما اتسعت دائرة الدراسة «الروسّوية» في فرنسا أولاً، ثمّ عقب صعود نجم «الاعترافات» كتاباً رائداً في حقل السيرة الذاتية. فهذا الكتاب، وفق «ميثاق السيرة الذاتية»، الذي نادى به الناقد الفرنسي فيليب لوجون في كتاب يحمل هذا العنوان، يمثل نموذجاً راقياً لفن السيرة الذاتية الذي هو فن «كتابة الأنا والذات»، التي يتحدّ فيها الكاتب والراوي، ليخلصا الى حال من التبادل و «التواطؤ» المضمر. ولا شك في أن «الاعترافات» هي السيرة الأولى، في مثل هذه الضخامة وهذا النَفَس الملحمي، في العصر «الحديث»، وهي سيرة متعدّدة، سيرة فرد وسيرة جماعة، سيرة إنسان وسيرة مكان وزمان، سيرة ينفتح فيها الأدب على الفلسفة وعلم النفس والانتروبولوجيا... ناهيك عن الفن السردي الذي انطلق به روسّو، مشرعاً إياه على جماليات النثر والشعر. وقد سمّي روسو «شاعر الاعترافات» انطلاقاً من خصائص نثره الايقاعي، المشبع بالدهشة، البسيط والمسبوك، الكثيف والشفاف، والقادر على إحياء «السعادة المفقودة». وقد أصاب سركيس عندما توقف، ولو عابراً، عند «الاعترافات» التي كتبها القديس الفيلسوف أوغسطينوس (397-400) الذي كان سباقاً في هذا الحقل الأدبي. ورأى سركيس أنّ اعتراف روسو هو للإنسان الآخر، وليس لنفسه وحدها، في حين أن اعتراف اغوسطينوس، هو «استسلام الى الله حتى الفناء». هل تأثر روسو ب «اعترافات» أوغوسطينوس؟ هذا السؤال يحتاج الى بحث خاص ليس هنا مكانه. لكنّ من يعود الى «اعترافات» أوغوسطينوس لا بدّ له من أن يلمس أثراً منها في روسو، بخاصة في البنية الكرونولوجية للنص، وطابع السيرة الذاتية، الزمنية والروحية والفكرية، والتجارب التي خاضها... وتظل المقارنة الدقيقة بين النصين هي الجواب الشافي على مثل هذا السؤال. لعل صدور «اعترافات» روسو في ترجمة خليل رامز سركيس قد يكون أجلّ حدث يمكن أن يساهم به العالم العربي في تكريم هذا الكاتب الكبير غداة احتفال أوروبا بالذكرى المئوية الثالثة لولادته. فهذه الترجمة العربية هي من أهمّ ترجمات «الاعترافات» في العالم، ولا أظن أنّ مترجماً عالمياً تحمس لهذا النص حماسة سركيس له، وقضى ما قضاه سركيس من أشهر طويلة، مكبّاً عليه، سبكاً وصوغاً، بطول أناة وتؤدة وحب أو افتتان. ولو كان لروسو أن يقرأ هذه الترجمة البديعة لما انثنى عن الانبهار بها مثلما انبهر غوته عندما قرأ ترجمة «فاوست» بالفرنسية التي أنجزها الشاعر جيرار دو نيرفال، وأحبها أكثر من نصّه الاصلي.