من الأساسيات التي تعلَّمناها في دروس الصحافة الأولى كانت عن: المقدمة! مقدِّمة الموضوع الصحفي هي أصعب جزء، لذا تُعطي مدارس الصحافة عناية كبيرة لتدريب الصحفيين على كتابة مقدِّمة الموضوعات الصحفية، فهي بوابة القارئ.. فإما تشدُّه للقراءة أو تصرفه دون رجعة، ولا أخفيكم أنني وجدت صعوبة جمّة لأبدأ حديثي معكم اليوم في أول خطوة في (اليوم)، هذه الدار العريقة بموروثها الذي يقف على تمام العقود الخمسة، وهي أيضًا الدار المستجمعة لقواها الآن لإطلاق رؤيةٍ كبيرةٍ وطموحةٍ في قادم الأيام، وربما الآن قد أكون تجاوزت عقبة المقدمة لأجد الفرصة المناسبة لأبدأ الحديث معكم عن المستقبل، فالاستعداد للمستقبل هو مهمة الإنجاز الكبرى.. وما أجمل الحديث عن المستقبل وتحدياته، هنا متعة الإحساس بالألم! أجمل ما لمسته في مناخات التفاعل الأولى مع القائمين على (دار اليوم) ومع منسوبيها هو الأجواء الصحية التي تحيط ببيئة العمل، فالمؤشرات الأولى بدت واضحة.. وهي تؤكد أن ثمة (روحًا جامعة) تربط الملاك مع الإدارة والتحرير، وهذه الميزة تسمعها من القريبين من الدار، ومن البعيدين عنها، ولا غرابة في خصوصية هذه الروح الجامعة، فهي بنت بيئتها، فالمؤكد أن المنطقة الشرقية تنامت فيها عبر السنين الروح الوطنية الجامعة المتسامحة المتميِّزة التي نفخر بها جميعًا. هذه الروح شدَّت الناس إلى (الشرقية) منذ الهجرات والتغريبات الكبرى الأولى قبل سبعة عقود، وما أورثته من اندماجٍ وتلاقٍ جمع أطراف البلاد كلها، فيومئذٍ لم يتردد البدوي في بيع جَمله؛ ليستقر في الأرض الواعدة. هذا الاندماج أوجد لنا شاهدًا حيًّا على المهمة التاريخية الكبرى التي أنجزها المؤسِّس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، ليجمع الشتات ويوحِّد القلوب المتحاربة تحت رايةٍ واحدة. في الشرقية، وكما هي مناطق المملكة الأخرى، هذه الوحدة هي رابط قلوبنا، وهي التي تجعلنا نخاف على المشتركات الكثيرة التي تجمعنا في الوطن الواحد الكبير. ومن يضع خطواته الأولى في دار اليوم من واجبه أن يتحسَّس هذه الروح الجامعة في هذه المنطقة الزاهرة الواعدة.. إنها تعني الشيء الكثير لنا جميعًا، لذا ستظل هي الطاقة النظيفة المتجددة المستدامة والدافعة لعمل التحرير في جريدة (اليوم)، فهي المُكوِّن والمشكِّل الرئيس لهوية الجريدة و(نكهتها، ورائحة حبرها)، إنها الرابط الروحي والثقافي والاجتماعي والفكري الذي يجمع الجريدة بالمنطقة، وهي التي تعطيها (الميزة النسبية). إنها ميزة تضاف إلى ميزة.. لدينا تميُّز الجريدة وأمها الدار في المنطقة، وأيضًا تميّز المنطقة في الوطن الكبير. في الشرقية كانت بدايات اقتصادنا الحديث، ومَن يتطلع إلى آفاق مستقبل اقتصادنا، الذي أصبح ضمن الاقتصادات الرئيسة في العالم، فسوف يرى قاطرة اقتصادنا الوطني مشدودة بقوةٍ إلى مكوّنات الاقتصاد في المنطقة الشرقية، وهذه الميزة الكبيرة للمنطقة يجب أن تكون حاضرة بوزنها الحقيقي حين التطلع لآفاق المستقبل لجريدة (اليوم)، فالنشاط الاقتصادي يتوسَّع، وحيوية قطاعاته المختلفة تتجدَّد كل يوم. ومن المكوِّنات الاقتصادية الرئيسية في المنطقة، والذي يُقدّم بعد قطاع صناعة الطاقة، هو قطاع صناعة السياحة. في ذهنية التحرير.. هذا القطاع يُفترض أن يحظى بعنايةٍ خاصة، ليس لأبعاده الاقتصادية المضافة فحسب، بل للأبعاد الاجتماعية والثقافية.. ولاعتبارات الجغرافية السياسية. إن الاهتمام بالسياحة يُعزز التواصل الذي نتطلع إليه مع أشقائنا في دول الجوار، فنحن نتحدّث عن وحدةٍ خليجية، والمنطقة الشرقية هي بوابتنا الأساسية لهذه الوحدة. لذا سياسات التحرير في الجريدة يُفترض أن تعطي عناية خاصة لكل ما يؤدّي إلى هذه الوحدة ويسرعها. وفي سياق (مسؤوليتها الاجتماعية) تجاه المنطقة ستبقى الجريدة وفيَّة للشراكة التي تربطها في إطارها المحلي، بالذات ضرورة تبنّي كل ما يؤدي إلى تكريس السلام الاجتماعي والتعايش الحضاري؛ ليكون رافدًا للوحدة الوطنية. كذلك من واجبها الاتجاه بقوة لتكون مؤسسة اجتماعية مؤثرة إيجابيًا في شؤون المنطقة الرئيسية، كما عليها أن تكون راعية ومحفزة للأنشطة الثقافية والفنية، وراعية للنشاطات الخيرية، وكل تفاعلات المجتمع المدني. وفي هذا الاتجاه ستكون من أولويات التحرير ضرورة الاهتمام المكثف المبني على خطة بعيدة المدى بالأنشطة الموجَّهة للشباب والمحفزة على التفكير والمشاركة الإيجابيَّين، مع ضرورة ربط الشباب بالنخب الاقتصادية والاجتماعية من (العصاميين) الروَّاد الأوائل من رجالات الدولة والاقتصاد الذين كان لهم دورهم في تشكيل هوية الدولة الحديثة. إن التجربة الكبيرة لدى رجالات الدولة في المنطقة هي موروث إنساني وحضاري لبلادنا، وسيكون من مسؤولية التحرير الأساسية العمل على تدوين حصاد السنين لهذا الجيل العصامي الذي يُدركه زحف السنين. هذا الجيل في ذاكرته الكثير من تاريخ بلادنا، وهو تاريخ من مسؤوليتنا جميعًا تدوينه وحفظه ونقله للأجيال الشابة المعاصرة التي تدرك القليل عن الظروف الصعبة التي عايشها أجدادهم. إن المسؤولية كبيرة أمام جهاز التحرير في السنوات القادمة، فالنفوس الكبار تتطلع إلى الإنجازات الكبيرة، والرواد الأوئل المؤسِّسون لدار اليوم من حقهم الأدبي والوطني أن يجدوا الدار التي تَشاركوا في تأسيسها وتحمَّلوا لسنواتٍ تحديات البدايات الأولى للصناعة ومخرجاتها الاستثمارية المتواضعة. الآن ومستقبلًا من حقهم أن يجدوا الدار في موقعها الوطني المتميِّز الذي يليق بمنطقتهم ويليق بمكانتهم الاجتماعية. أيضًا من حق بلادهم عليهم ومعهم الأجيال القادمة أن يُقدِّموا لهم مؤسسة وطنية رائدة وقائدة في صناعة الفكر والثقافة والإعلام، دار تتحقق لها الاستدامة المالية المجزية لتنجز وتحقق واجباتها ومسؤولياتها الوطنية أولًا، ثم تُحقق من الأرباح ما يضمن استدامة الدار وازدهارها، كمؤسسةٍ فكريةٍ وثقافية، وللحقيقة ومن باب العِرفان بالفضل، والله «سبحانه وتعالى» يقول: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، كثيرون الآن يُثمِّنون للمؤسِّسين للدار صبرهم وحُسن تقديرهم للأمور في العقود الماضية، فتغليب المصلحة الوطنية على اعتبارات الأرباح هو الذي أوجد للدار الإمكانات والموارد المتاحة الآن، وبحول الله سوف تضمن تحقيق ما يتطلعون إليه. مع الزملاء وعبر روح العمل الجماعي، بحول الله سوف تواصل جريدة (اليوم) مشوارها لاستكمال التحوُّل إلى العمل (المهني المحترف) الذي يستعد لتحديات البيئة الإعلامية الجديدة، وأبرز متطلبات هذا التحدّي هو تكريس القناعة بأن مستقبل صناعة النشر ليس إلى زوال، بل التطورات التقنية الجديدة سوف توسِّع فرص النمو والازدهار للصناعة، وسوف تطوِّر أسلوب عملها التجاري، وفي السنوات الماضية تمكَّنت الإدارة في دار اليوم من بناء إمكاناتها الحديثة وطوَّرت آلياتها المالية الاستثمارية والإدارية بشكلٍ مهني محترف، وهذا الإنجاز المتحقق يوفر الأرضية الخصبة لإطلاق منتجاتٍ إعلامية جديدة. بقي أخيرًا ضرورة التأكيد على أمر مهم وهو: أن مَن يبحث الآن ومستقبلًا في الإمكانات المتاحة في المنطقة الشرقية سيجد كل المقوِّمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية متاحة وداعمة لتحقيق النجاح وتحويل (التحديات) إلى (فرص) واعدة.. ويكفي أن تجد قريبًا منك مؤسَّستَين وطنيتَين قادتا النجاح وحققتا التميُّز والتأثير الإيجابي في بلادنا لسنواتٍ طويلة.. إنهما (أرامكو) و(جامعة البترول).. مَن يجرؤ على عدم النجاح والتميُّز وهما: على مرمى حجر من داره؟! [email protected]