أعطني لكي أعطيك.. كثيرون هم الذين يتبنون مفهوم أو الفكرة أو الاعتقاد القائل إن «الحياة أخذ وعطاء»، وهم بذلك كأنهم يشترطون الحصول على ما يريدون ومن ثم يفكرون في العطاء، فالأخذ أولاً والعطاء يأتي في المرتبة الثانية، وهو مفهوم في اعتقادي قاصر. الأمر يختلف تماماً عندما تكون نظرتنا للحياة والتعاطي معها «عطاء في عطاء»، فالأشخاص الذين يتبنون هذا المبدأ هم الأجدر بالاحترام والتقدير، وهم من ترتقي بهم المجتمعات الصغيرة والكبيرة. انظر إلى الأم كمثال، إنها تعطي وتعطي دون أن تشترط الأخذ أو تنتظره، أو حتى تفكر فيه، كل النبلاء والعقلاء والإيجابيين يتبنون فكرة أن الحياة «عطاء في عطاء». انظر وتمعّن في الطبيعة، فهي معطاء.. هذه البحار والأنهار والجبال لا تنتظر ولا تشترط الأخذ أولاً، فما بال الإنسان صاحب العقل والحكمة يخالفها! إن العديد ممن سجل التاريخ أسماءهم بأحرف من نور هم الذين كان ديدنهم العطاء من أجل العطاء، والتضحية من أجل الآخرين والمبادئ والقيم والمجتمع، وقد يكون الكثير منهم لم يلتفت إليهم أحد ولم تذكر حتى أسماؤهم إلا بعد أن رحلوا عن هذه الدنيا، ولكن يبقى أثرهم نبراساً نهتدي به حتى يومنا هذا، بل ويمتد الأثر إلى المستقبل أيضاً. أمعن النظر فيمن حولك في العمل مثلا أو في الحياة الاجتماعية، ستجد الكثير ممن يتبنون الفكرة القائلة والقاتلة في نفس الوقت «أنا أعمل على قدر راتبهم»، أو تسمع أحدهم يقول: «لا تحرص كثيراً على العمل فلن يقدر جهدك أحد».. وغير ذلك، فالقائمة طويلة. وعلى المستوى الشخصي فكثيراً ما نسمع أحدهم يقول: «لا يُخدم بخيل»، وهو بذلك يذكر الطرف الآخر بأن لي نصيبا يجب أن أحصل عليه بعد أن أنجز لك المهمة أو المعاملة، هذه الفئة من الناس إنما يفكرون في حقوقهم قبل تأدية واجباتهم، وهو أمر جد خطير، إنهم يقعون في فخ التركيز على الأخذ والاستبسال في ذلك مما يشغلهم عن تأدية واجباتهم في العطاء المطلوب منهم. إن الذين يعملون بإتقان من أجل العمل، ويضحّون من أجل الآخرين ولا يريدون أو ينتظرون جزاء أو شكورا، إنما تحفزّهم وتدفعهم قيمهم ومبادئهم السامية، حتما يحققون مكاسب كثيرة على الصعيدين الشخصي من جهة، والاجتماعي والديني من جهة أخرى، فعلى المستوى الشخصي يرتقون في إشباع أعلى درجات الحاجات الإنسانية، وهي تحقيق الذات.. التي تُعدّ أعلى المراتب، والتي يكافح كل إنسان على هذه البسيطة من أجل الوصول لها وتحقيقها.. أما على المستوى الاجتماعي والديني، فيكفي أنهم يصبحون الفاعلين والعاملين المؤثرين في المجتمع، إنهم صناع الحياة الذين ترقى بهم المجتمعات والأمم، فما أعظم الفرق بين هؤلاء وأولئك.