أعطِ لتأخذ، تلك هي العبارة التي لابد لنا من أن نتعرض لتفسيرها بادئ ذي بدء حتى نستطيع أن نعرف على وجه الدقة إلى أي مدى تتحكم العناصر السيكولوجية في مصير الحياة بعيداً من أدبيات التضخيم، فالحياة لا يمكن أن تستمر من دون سياسة الأخذ والعطاء، وإن تعذر أحدها فبالتأكيد ستتلاشى هذه العلاقة مهما كانت متينة، كما أن هذه العبارة يمكن تمطيطها إلى ما لا نهاية، فليست مرتبطة بالمادة فقط، كما يدل عليه ظاهر اللفظ. ولكن يمكن تنزيلها على أمورنا الحياتية كافة، سواءً أكانت علاقاتنا الاجتماعية أو حتى العاطفية، بل إن أكثر ما يستلزم سياسة الأخذ والعطاء هو الحب، فلا يمكن للحب أن يكون حقيقياً إن لم يكن أصيلاً مبنياً على مبدأ الأخذ والعطاء من الطرفين، لأن المشاعر والأحاسيس يتولد أحدهما من رحم الآخر، كما الجفاء تماماً، فالكراهية إنما ترتد في نهاية الأمر إلى رد فعل مشابه بسبب تلك المشاعر الجافة. ليس بدعاً أن نفترض أن هناك من يعطي من دون أن ينتظر الأخذ، ولكن في الغالب ألا يمكن لهذه المشاعر أن تصمد أمام أعاصير الجفاء، لأن الشعور الجبلي المغروس في الإنسان فطرياً هو حب من يحسن إليه حتى وإن كان مسبوقاً بكراهية، فالإحسان إلى الغير يمكن أن يحرف الكراهية برمتها عن مسارها إلى حب وولاء، كما ينص ذلك قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، كما أنه ليس مطلوباً من أي كائن سوى مبادلة الإحسان بالإحسان، ومقابلة السيئة بالسيئة، إن كان ولابد بلا شطط، كما قال تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها)، على رغم أن العفو يحتل الصدارة في الأفضلية بلا شك، لأن المشاعر إنما تمثل في حقيقتها مركباً متكاملاً يتم فيه ضرب من التآزر بين الطرفين، ولا يمكن أن تكون محدودة على طرف من دون الآخر، لأن سياسة الأخذ والعطاء ترفض مبدأ الأخذ من دون عطاء. حقيقة لست أرمي إلى أن الحياة يجب أن تسير على مبدأ المصلحة «في نظر البعض»، ولكني أرى أن من خطل العقل أن يتطلع المرء إلى شيء بعيد من سجيته، فمن يحلم ب «ليلى» لا بد أن يكون أهلاً لأن يكون «قيساً» الذي يصلح لليلى، وإلا فسيموت حب ليلى من دون مجنونها، كيف وهو الذي يبعث فيها معنى الحب ويظل هادراً داخل روحها أينما حلت، ومن دونه يمكن أن يتحول حبها إلى جحيم إلى أن يتلاشى شيئاً فشيئاً. فأكثر المشكلات الناشبة بين الطرفين مردها غالباً ما يكون بسبب عدم انسجام العلاقة بينهما كما ينبغي، فمن يُعطي من حقه أن ينتظر الأخذ ممن أعطى، كما أن من حُرم من الأخذ لا يُعتب عليه إن تمنع عن العطاء، فجزاء سيئة سيئة مثلها، وجزاء الإحسان إحساناً. نخلص في نهاية الأمر أن كل شيء في هذه الحياة قائم على سياسة «هات وخذ»، حتى الحياة لا يمكن أن تعطينا ما لم نجتهد في إرضائها بالكد والتعب، ولولا ذلك لاستوت درجة المجتهد والخامل، فبقدر ما تعطي ستأخذ. [email protected]