حيث إنه سبق لي الإدلاء في حديث تلفزيوني ببعض النقاط الموضحة لنظام الإفلاس، ونتج عن ذلك تساؤلات عديدة وصلتني عمّا طرحته والذي كان مقتضبًا لدواعي ضيق الوقت المخصص للبرنامج، فقد رأيت أن أسلط الضوء هنا بشكل موجز على توضيحات عامة عن ماهية الإفلاس وإجراءاته المتفق عليها دوليًا وإقليميًا على وجه العموم. ابتداءً لا بد أن نعرف أن مرحلة الإفلاس هي مرحلة مهمة في التعاملات التجارية والكيانات الاقتصادية، مما يستدعي معه أن يبادر أي منظم أو مشرع بتنظيم أحواله وترتيب أوضاعه، حتى لا تصاب الحياة التجارية بأي اضطراب يضعف قوتها ومتانة الاستثمار فيها. ولذا كان هناك هدفان كبيران من تنظيم وتشريع أحكام الإفلاس، الأول منهما هو حماية أموال الدائنين والمحافظة على الحياة التجارية التي تقوم على تشابك العلاقات المالية التي يؤدي الاضطراب في أحد التعاملات فيها إلى اضطراب الحياة التجارية بأكملها، والثاني هو المصلحة العامة التي تتمثل في حماية الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمار وسلامة النشاط الاقتصادي والتجاري. ولا بد أن نعرف حين نتكلم عن الإفلاس أنه يختلف عن الإعسار، ذلك أن الإفلاس نظام خاص بالتجار وحدهم، وينظمه القانون التجاري، ولا يسري إلا على التجار الذين يتوقفون عن سداد ديونهم التجارية في مواعيد استحقاقها. أما الإعسار فهو خاص بغير التجار وهم الأفراد العاديون الذين تنطبق عليهم قواعد وأحكام الإعسار المدني. ولذا كان تعريف المفلس يختلف عن تعريف المعسر بسبب اختصاص الأول بفئة التجار سواءً أكانوا شخصيات طبيعية أو معنوية والثاني يختص بالأفراد العاديين، وتوضيح ذلك بصورة أكبر يكون من خلال ذكر تعريف كلا المصطلحين. فالمعسر هو الذي استغرقت ديونه جميع أمواله وأصبح عاجزًا عن سدادها، أما المفلس فهو التاجر الذي توقف عن دفع ديونه بغض النظر عن حالة التاجر المادية حتى ولو كانت أمواله تزيد عن ديونه، فالمعيار هنا في الإفلاس هو التوقف عن سداد الدفعات المستحقة حاليا دون النظر لحجم أصول التاجر وممتلكاته مهما بلغت، اما الإعسار فهو العجز عن السداد وليس التوقف عنه لاضطراب مالي ونحوه. فعلى سبيل المثال نجد قانون التجارة المصري -ومثله قوانين التجارة في دول الخليج- تطرق لتعريف المفلس بقوله (يُعدّ في حالة إفلاس كل تاجر ملزم بموجب أحكام هذا القانون بإمساك دفاتر تجارية إذا توقف عن دفع ديونه التجارية إثر اضطراب أعماله المالية) ونلاحظ في هذا التعريف ذكره لسبب توقف الدفع وهو اضطراب الأعمال المالية للتاجر. وقد يسأل سائل ويقول ما الحكمة من تطبيق نظام وقانون الإفلاس على فئة التجار فقط؟ وجواب ذلك هو أن طبيعة الحياة التجارية تقتضي قيام العلاقات بين التجار على الثقة والالتزام بالمواعيد في سداد الديون، إذ ان كل تاجر لا بد من أن يكون دائنًا ومدينًا في نفس الوقت في عملياته التجارية، وهو يعتمد في سداد ما عليه من ديون على استيفاء ما له من حقوق لدى التجار الآخرين، فإذا تخلف أحد التجار عن سداد ما عليه فسيترتب على ذلك تخلف تجار آخرين عن الوفاء بما عليهم من ديون، وهكذا ينتقل هذا التعثر وفق سلسلة متشابكة من العلاقات التجارية المترابطة مثل الحلقات بين العديد من التجار، ولذا فإننا نعتبر التاجر الأول الذي حصل منه بداية التعثر المادي مثل البؤرة السرطانية التي تستدعي بترها واقتلاعها من الحياة التجارية في أول ظهورها حتى لا تنتقل عدواها إلى بقية النسيج التجاري. ويتميز الإفلاس بأنه نظام قانوني خاص بالتنفيذ الجماعي على أموال المدين التاجر الذي يتوقف عن دفع ديونه التجارية نتيجة اضطراب حالته المادية. وذلك مقابل نظام التنفيذ الفردي على أموال المدين الذي يستطيع أن يقوم به دائن واحد دون انتظار بقية الدائنين من خلال الحجز والبيع الجبري لأموال المدين لسداد الدين. والمقصود بالتنفيذ الجماعي هو أنه إذا تقدم أحد الدائنين إلى المحكمة لطلب شهر إفلاس المدين التاجر الذي توقف عن سداد أقساط مديونيته له، فإن القاضي إذا تحققت شروط شهر الإفلاس على هذا المدين التاجر يقوم بشهر وإعلان إفلاسه للتجار حتى يبادر كل الدائنين لتقديم مديونياتهم مع هذا التاجر المفلس، ويبدأ تطبيق إجراءات الإفلاس بحق المفلس بدءًا من كف يده عن أعماله التجارية وإقامة مدير للتفليسة وإدارة لها مع استيفاء الدائنين كلهم وتصنيف ديونهم إلى ديون ممتازة وعادية وذات رهن ونحو ذلك مع العديد من الإجراءات المطولة المذكورة في قانون ونظام الإفلاس. وأختم مقالي بتوضيح مهم يُبرز أهمية نظام الإفلاس للدائن وهو مما ينشده المستثمرون الأجانب في الحياة التجارية في المملكة العربية السعودية، وهو كالتالي: لو افترضنا أن هناك شركة أو مؤسسة (نشاطها تصنيع وتوريد الخرسانة الجاهزة) تعثرت في سداد فواتيرها -المحدد أوقات دفعها- للشركة التي تُزودها بالإسمنت السائب (المادة الخام) وكان تعثرها مخوفًا ومقلقًا، فما الذي ستفعله الشركة الدائنة حيال ذلك للإسراع في تحصيل أموالها قبل أن يزداد الأمر سوءًا ؟ الجواب هنا سيُبرز أهمية قانون ونظام الإفلاس وذلك أنه إن لم يكن هناك نظام للإفلاس فستضطر الشركة الدائنة لتقديم دعوى مطالبة مالية تستغرق في أقل أحوالها سنة كاملة وذلك لأخذ حكم قطعي نهائي ثم التوجه للتنفيذ الذي يحتاج شهورًا وقد يستلزم إجراءات تُطيل الأمر أكثر، وخلال هذه الفترة الطويلة يستمر تعثر المؤسسة أو الشركة المدينة ويزداد تخبطها المالي وقد تتصرف بأصولها المادية أو العقارية وسيولتها بنقلها لآخرين ونحو ذلك حتى لا يكون هناك شيء متبقي للدائن المشتكي حين يحين تنفيذ حكمه. وفي الحالة الأخرى لو كان هناك نظام إفلاس فإن الشركة الدائنة تستطيع التقدم مباشرة بطلب شهر إفلاس التاجر المدين (مؤسسة أو شركة) وحينها يكفُّ القضاءُ يدَ التاجرِ عن إدارة تجارته مباشرةً بل ويلغي تصرفاته المالية التي سبقت طلب الدائن لشهر إفلاسه والتي فيها مظنة الضرر على حقوق الدائنين ويضع القضاء المختص أمينًا للتفليسة ليدير أعمال التاجر التجارية ويحفظ حقوق الدائنين. هذا الجواب السابق أظنه يختصر علينا فهم أهمية نظام الإفلاس للتجار وللحياة التجارية وللاقتصاد الوطني بشكل عام.