امتداداً للمتغيرات العديدة التي طرأت وستطرأ على الاقتصاد المحلي وحتى عام 2030م نجد أن هناك العديد من المشاريع ستكون حاضرة في عدة مجالات سواء أكانت مباشرة أو تم خصخصتها أو غير ذلك، وتلك المشاريع تحتاج لقوى عاملة تقنية وفنية وصناعية مؤهلة في مختلف التخصصات، وبدون أدنى شك ستكون الأفضلية للقوى العاملة المحلية، وفي الوقت الحالي نمر بمرحلة فيها أعداد ليست بقليلة من العاطلين من أبناء الوطن بالإضافة لقوى عاملة محلية تمثل الأقلية وبجدارة في سوق العمل وبوظائف تكميلية أو بعيدة عن تخصصاتهم، ويبقى السؤال المهم: هل نحن جاهزون للمرحلة المقبلة لنجاح تحقيق «رؤية المملكة 2030» أم سنفرط في ذلك؟. في هذا المقال سأبدأ بمثالين حتى تتضح الرؤية حول وضعنا الحالي وكيف يمكن تجاوز تلك المرحلة، «المثال الأول» يدور حول ثلاثة مواطنين شباب تخرجوا من الثانوية العامة بمعدل متواضع، ثم قدموا أوراقهم لعدة جامعات وكليات في مختلف مناطق المملكة لإكمال دراستهم، وكانت النتيجة أن أحدهم تم قبوله في جامعة لا يعرف عنها سوى اسمها ولا يعلم عن تخصصاتها أي معلومات وكان هاجسه الحصول على شهادة جامعية فقط لا غير، والثاني تم قبوله في احدى الجامعات وبتخصص أُجبر عليه من قبل إدارة الجامعة وبعيدا عن التخصص الذي يحلم فيه، أما الثالث فلم يتم قبوله في أي جامعة أو كلية وبقي في مكانه يتحسر على ضياع دراسة اثنتي عشرة سنة، فما هو مصير هؤلاء الشباب مستقبلاً؟. نأتي «للمثال الثاني» والذي يدور على فرضية حدوث أي تغيير في سياسة الاستقدام لدى أي من الدول التي نستقدم منها العمالة بشكل كبير، فلو فرضنا أن حكومة أي من تلك الدول ولأي سبب كان قامت بتعديل بالنسبة لسياساتها العمالية وشمل هذا التعديل عمالتها التي تعمل خارج البلاد، واضطرت تلك الدولة لسحب جميع عمالتها بغض النظر عن الأسباب التي أدت لذلك، فماذا سيكون موقفنا إذا أدى ذلك لشلل في مشاريعنا ولم يكن لدينا البديل الجاهز؟. ما ذكرته في المثالين هو واقع خطير في سوق العمل السعودي ويجب التعامل معه بأسرع وقت ممكن، ففي المثال الأول نجد أن إستراتيجيات التعليم في مرحلة ما بعد الثانوية عشوائية ولم يتم تغييرها منذ سنوات بالرغم من تيقن العديد بأن التعليم هو الأساس لحل العديد من القضايا الاقتصادية التي تواجهها أي دولة، فما ذكرته بالمثال الأول ستكون نتائجه وخيمة ومتركزة بالنسبة الكبرى على توليد أعداد إضافية من البطالة أو توظيف قوى عاملة في وظائف بعيدة عن تخصصاتهم مما سيؤثر ذلك على التراكم المعرفي في سوق العمل، أما بالنسبة للمثال الثاني فسنجد أن أي قرار مثل ما تم افتراضه سيدخلنا في شلل اقتصادي بسبب إدمان سوق العمل على جنسيات معينة في وظائف معينة في احتكار مهني خطير جداً اقتصاديًا، والسؤال هنا: هل نملك الحلول لذلك، أم سنستسلم للواقع المُر؟. وزارة العمل في جهد كبير قامت بعمل تشخيص لسوق العمل السعودي، وكانت النتائج مذهلة فيما يخص سيطرة جنسيات معينة على وظائف محددة، وهذا ما يسمى بالانكشاف المهني «الوظيفي» والذي من خلاله قامت وزارة العمل بتشخيص الواقع فيما يخص القوى العاملة المحلية الحالية لشغل تلك المهن بالإضافة لأعداد الكوادر البشرية المحلية التي من الممكن أن تشغل تلك الوظائف على المدى القصير، وأنا متأكد أن النتائج كانت صادمة وتحتاج لتحرك سريع حتى ولو كان قاسياً لأن مصلحة الوطن أهم من أي شيء آخر. من المثالين أعلاه نجد أن هناك فجوة واضحة وخللا ينبغي معالجته حتى لا يكون عامل القوى العاملة عائقًا للنجاح، فواقع سوق العمل الحالي هش ويحتاج لإعادة هيكلة وهذا أمر لا يختلف عليه أي مختص اقتصادي، ولو كانت لدينا إحصائيات دقيقة فسنجد أن لدينا أربعة تشخيصات رئيسية، «التشخيص الأول» يتمحور في نسبة كبيرة من الأقلية «العمالة المحلية» في سوق العمل ويعملون في وظائف بعيدة عن تخصصاتهم، و «التشخيص الثاني» يتمحور في نسبة من العاطلين عن العمل ويحملون مؤهلات يحتاجها سوق العمل ولكن لم يجدوا الفرصة بسبب إما سيطرة جنسيات معينة على وظائف تلك التخصصات أو بسبب تفضيل القوى العاملة الوافدة لرخص تكلفتهم، و «التشخيص الثالث» يتمحور في مجموعة من العاطلين عن العمل في تخصصات «تشبع» منها السوق ولا تتواءم مع احتياج سوق العمل للسنوات المقبلة، و «التشخيص الرابع» نجده في وظائف لا يوجد لدينا العدد الكافي من القوى العاملة المحلية لشغلها في حال حدوث أي ظرف مما استدعى ذلك فقداننا لفرص وظيفية لأبناء الوطن والتوجه لاستقدام العمالة الوافدة بشكل مفرط، ومثال على ذلك من إحصائيات رسمية سابقة قرأتها نجد أن السعوديين في بعض التخصصات الصحية تصل نسبتهم لأقل من ثلث العاملين في نفس التخصص بالقطاع الصحي في المملكة بالإضافة لبعض التخصصات الهندسية والتي لا تتجاوز نسبة العاملين السعوديين فيها عن 15% من مجمل المهندسين العاملين في نفس التخصص بالمملكة!. الإستراتيجية المهمة والتي من المفترض العمل عليها بشكل عاجل هي إستراتيجية «تحويل المسار»، وبمعنى آخر أن المطلوب هو التركيز على التخصصات والوظائف التي ترتفع بها نسب الانكشاف المهني والتي ينخفض بها نسب القوى العاملة السعودية بشكل كبير وذلك بالعمل على تحويل مسار العاطلين من أبناء الوطن لتكون مؤهلة لشغل تلك الوظائف، فهناك الآلاف من العاطلين خريجي الكليات والجامعات في تخصصات لا يحتاجها سوق العمل وبدون وظائف خصوصا للعنصر النسائي والذي وصلت نسبته لما يقارب 76% من إجمالي العاطلين، وهناك الآلاف من الداخلين المحتملين لسوق العمل بشكل سنوي، وأغلب تلك الأعداد نجد أن العائق الرئيس لتوظيفهم هو عدم مواءمة تخصصاتهم لاحتياج سوق العمل. التعليم التقني والفني والصناعي أهملناه لسنين ونتحمل حاليا عواقب هذا الإهمال، والقوى العاملة السعودية موجودة ولكن تنقصنا إستراتيجية واضحة لتعزيز مكانتها في السوق، والعاطلون لدينا منهم أعداد في تزايد ويحتاجون منا فقط التحرك، فهل نحن جاهزون للتحرك بتحويل المسار، أم سنستمر في التخوف من جرأة التحرك؟.