لزمن طويل اعتقد الأوروبيون الغربيون أن حلف الاطلسي حررهم من النزعة النازية والتهديد الروسي، فبين حلفين تاريخيين عاش الغرب النصف الثاني من القرن العشرين، هما: حلف وارسو الذي تأسس عام 1955 م، والثاني حلف الناتو أو منظمة شمال الأطلسي التي نشأت عام 1949. لم تكن معادلة الصراع لتبدأ بالمعنى البارد عقب الحرب العالمية الثانية، إلا بعد الخمسينيات من القرن العشرين، وفي مسار الأحداث حكم العالم سياسة القطبين، وما أن حل عقد التسعينيات حتى رحل جل دول حلف وارسو الاشتراكية الشرقية الأوروبية نحو بروكسل وحلفها، كان أول الراحلين التشيك وبولندا والمجر عام 1999 وآخرهم كرواتيا والبانيا عام 2009. الحلفان لا يختلفان في الأهداف، لكن خلاصتهما التدميرية واضحة، ففي حين كان حلف الناتو يعلن دعمه للحرية في الدول، ويدمرها بشكل ناعم ويقوض وحدتها، فإن مجرد سماع اسم الجيش الأحمر التابع لحلف وارسو كان يثير الرعب والقمع، ومع أن حلف وارسو يرفض التدخل في الشؤون الداخلية لدوله، إلا أن الاتحاد السوفيتي كان يتجاوز هذا الميثاق ويرسل جيشه الأحمر لقمع الثورات المنادية بالحرية. حدث ذلك مع الثورة المجرية التي قامت عام 1956 م، ثم استخدمت قوات حلف وارسو عدة مرات لقمع ثورة ربيع براغ عام 1968 م، إذ قامت قوات الحلف باقتحام تشيكوسلوفاكيا للقضاء على تلك الثورة التي كانت بقيادة ألكسندر دوبتشك، الذي استلم البلاد، واشاع قدرا من الحريات الصحفية ورفع القيود الأمنية وقلل من سطوة الحزب الشيوعي، وهو ما ازعج موسكو فعملت على قمع الربيع في براغ مبكرا مستخدمة قوات الحلف، وهو ما ترك براغ مدينة مكلومة سنين بهذا الفعل. مع الروس هناك دموية أزلية ترافق وجودهم العسكري، ومع الأمير كان ثمة دماء وخراب أيضا، مع أمريكا دمر العراق، ومع روسيا تدمر سوريا، والعرب في مشهد التفرج، وتكاثر الحزن والأرامل ومشاهد التفجير، هكذا ترك العراق، وهكذا تصير سوريا، وهكذا تصبح ليبيا. عشية إعلان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينسس ستولتنبرغ أن قمة الحلف المقبلة ستعقد في وارسو يومي 8 - 9 يوليو المقبل، حيث يعود الجدل اليوم حول الاعتقاد الأوروبي أن حلف الناتو يحميهم، أو يعيد صياغة أدواره، في مسيرة من التاريخ المرير. يتذكر الأوروبيون الخديعة الكبرى ويكتب ماتيوس بيسكورسكيال مقالا بعنوان: «الحرب على التاريخ حملة طويلة المدى من قبل الحلف الأطلسي». ويقول: «إن حلف الأطلسي حلف بالغ القدم حرر أوروبا من النازية ويحمينا من الروس، هذا على الأقل ما يجب علينا الاعتقاد فيه. والحقيقة التاريخية مختلفة تماما، لكن الحلف يحاول إعادة صياغتها، وهي مهمة طويلة المدى ذات تبعات مظلمة..». يعود الأوروبيون اليوم قبيل قمة الحلف المقبلة إلى ذاكرة ايلول 2014 حين كانت الدول أعضاء في حلف «الناتو» تقر في قمتها التي عقدت في ويلز «خطة عمل لضمان التأهب» مفسرة ضرورة ذلك بتطور الأوضاع حول أوكرانيا. وشملت هذه الخطة إنشاء مجموعة متقدمة من قوات الرد السريع، وكان محرك ذلك القرار المخاوف من التحركات الروسية بعد موضوع ضم شبه جزيرة القرم، ولاحقا في آب 2014 تغول مجموعة من الجنود الروس فعبروا مرة ثانية الحدود الأوكرانية في ناقلات جند مدرعة وشاحنات ودخلوا مدينة أمفروسييفكا الواقعة في شرقي أوكرانيا، فاحتجت أوكرانيا بأن روسيا تريد بناء قاعدة عسكرية في أراضيها. وآنذاك شنت حملة إعلامية ضخمة في أوروبا والغرب، غرضها الأساس إثارة الخوف من الأعمال والمخططات العدوانية التي يزعم أن روسيا تعد لها. وبدأت الحرب على الذاكرة المديدة لدى شرق أوروبا التي تمثل جزءا من الحملة طويلة المدى على روسيا. كانت امريكا تدعم ذلك ومعها بريطانيا وفرنسا فيما المانيا اقل حماسا للعداء مع روسيا. لم تنزعج روسيا كثيرا من مقاطعة أوروبية وعقوبات غربية مدعومة امريكيا، لكنهم ردوا لاحقا على هذه النوايا بقرارات التدخل في شهر ايلول 2015 في سوريا لحماية نظام الأسد من السقوط، والعمل لابقاء مصالحها وتغيير موازين القوى وإدارة الصراع في المقابل، لكن الدخول الروسي في المشهد السوري عسكريا، ألجأ الأمريكان لاعادة حساباتهم، ومع ازدياد تدفق الهجرة السورية لأوروبا، عادت الاخيرة لتحسس رأسها من جدوى سيرها على النهج الأمريكي المناوئ للروس. وعاد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يكرر الترحال بين بروكسل وموسكو، ليبحث عن مخرج في جدار موسكو الصلب بسوريا، فيما نظيره لافروف يبدي التمنع ويرفض التنازل عن أي هدف روسي في سوريا. صحيح أن العالم صيغ وفق ثنائية «وارسو- والناتو» خلال الحرب الباردة، لكنه اليوم يبدو مختلفا مع الحروب الدائرة هنا في الشرق، فروسيا تؤثر في بروكسل اكثر من امريكا فيما يخص المشهد السوري، دون ان تحتاج إلى كبير عناء، وأبعد من ذلك ذهبت موسكو لمواجهة علنية مع أبرز أعضاء حلف الناتو وهو تركيا الدولة العضو في الناتو منذ خمسنييات القرن العشرين، إذ قدم السفير الروسي فيتالي تشوركين في الاممالمتحدة، منذ بداية العام الحالي، خمسة تقارير مفصلة لمجلس الأمن، تتهم في مجملها أنقرة بدعم مباشر، أو غير مباشر لداعش، الثلاثة الأخيرة منها تم تقديمها للمجلس، بعد بدء وقف الأعمال العدائية. هنا تقفز الأسئلة عن الدور التركي وعن وصول الأسلحة لداعش وعن قوافل المجندين، وعن التحذيرات المطلقة أوروبيا، وعن تكاليف الحرب المفتوحة، التي لا يجاب عنها بسهولة، وعن العلاقات الروسية الأمريكية وتقاسم الأدوار، وعن الحرب المفتوحة على الإرهاب؟. الناتو يعلن دعمه للحرية في الدول ويدمرها بشكل ناعم ويقوض وحدتها كيري يبحث عن مخرج في جدار موسكو الصلب بسوريا