عن (دار النهضة العربية) ببيروت صدر هذا العام 2016م ديوان بعنوان (عين نحات أعمى) للشاعر المغربي محمد العناز. ويطرح شاعر هذا الديوان تجربته الشعرية هنا من خلال ما يُعرف ب (قصيدة النثر)، وهي ذلك المزيج الابداعي، الذي يمزج في شكله ومضمونه وتركيبه فيما بين الشعر والنثر في آن واحد، بحيث يعتمد على المراوحة فيما بين هذين الفنين الأدبيين، ليأخذ من كل منهما شيئا ما يختص به أحدهما دون الآخر. ومن المعروف أن (قصيدة النثر) لها فنياتها وأدواتها الخاصة بها، وينبغي علينا جميعا -قراءً ونقادًا- أن لا نتساهل، أو نستهين بأمرها، لكونها من أصعب الفنون الأدبية في أدبنا العربي الحديث، وتعتبر أحدث أنواعه، وليس من السهل إتقان كتابتها -كما يظن البعض وكما يبدو من مسماها- وليس بإمكان أي شاعر مهما كانت مقدرته الشعرية أن يلم بها ما لم يكن متمكنا تماما من اللغة بنسقيها الأساسيين (الشعري والنثري). وأعتقد أن (العناز) من خلال ديوانه هذا قد تعامل مع (الشعر المنثور) تعاملا جادا وحذرا، ومتقنا أيضا، وهذا مبني أولًا: على سلامة لغته وعمقها، وعلى قوة شاعريته ثانيا، وعلى ثقافته الواسعة، وسعة اطلاعه على الأدب، بكل أجناسه، خاصة (الشعري) منه في المقام الثالث. وتلعب (الرمزية) دورا بارزا في لغة (العناز) الشعرية الموغلة في تفاصيلها، كما هو واضح، ومتمثل لنا في ديوانه هذا، وبما سماه ب (تصدير يشبه فلسفة العين) كتمهيد للديوان، اذ تتعدد معاني مفردة (العين) وتوظيفها في سياقات لغوية شتى، واختلاف مدلولاتها من نص الى آخر، طيلة امتداد النصوص التي ضمها الديوان. فهذه المفردة المكونة في ظاهرها من ثلاثة أحرف تفنن الشاعر في استبطانها، ليكشف لنا عن معانٍ ذات ظلال ومدلولات لغوية مختلفة لهذه المفردة نفسها على الرغم من تماثل حروفها تماثلا تاما، كتابة ونطقا!! فهي قد تعني (العين) كأحد أعضاء الجسم، أو احدى الحواس الخمس الرئيسة، التي يتمتع بها الانسان السوي الكامل السليم من جميع العاهات، وقد تعني (عين الماء)، وربما تعني (الذات) أي الشيء ذاته أو عينه، وقد تعني أيضا (الأصل)، وربما تعني كذلك (الرقيب) أو مختلس النظر، أو ذلك الشخص الذي يتلصص بنظره ليسترق أخبار مَنْ حوله من الناس لأي سبب من الأسباب، وغير ذلك من المعاني الأخرى الداخلة تحت هذا السياق. ففي نص جاء تحت عنوان (عين ساهرة) يأتي قوله: (عيناي الساهرتان تتجسسان من وراء ستار النافذة على حلم يتشكل من ثمالة السواد في ليل مقيم...). الديوان: ص10. فالعين هنا تدل دلالة قاطعة على أن المقصود بها هو (العين) كحاسة بصر، وذلك لارتباطها ارتباطا وثيقا بما له من علاقة معروفة بهذه الحاسة: السهر، تتجسسان، من وراء ستار النافذة، وكذلك مفردة (الحلم) التي جاءت هنا لتفصل بين عالمي اليقظة والنوم...الخ. ولذلك جاءت مفردة (العين) هنا في موقعها المناسب من سياق الكلام. وفي موضع آخر، تأتي (العين) بمعنى (الثقب) كقوله من نص عنونه ب (العين الثقب): (عين ثقب في الجدار قامتي أطول لكنها ستار من ظلام...). الديوان: ص24. وفي موضع آخر، تأتي (العين) ليقصد بها (الماء) كقوله من نص جاء بعنوان (عين ملاك): (عين ملاك تسيل تفيض فتتفتح أصابع البنفسج تروي عطش القهوة للثرثرة...). الديوان: ص27. ومن الواضح هنا في هذا النص -تحديدا- ارتباط المدلول (الحسي) لمفردة (العين/ الماء) بالسيلان والفيضان والعطش والارتواء، ما يصرف ذهن القارئ أو السامع مباشرة الى أن المقصود بها فعلا هو (الماء) وليس المعاني الأخرى، التي قد يوحي بها ظاهر هذا اللفظ.