النص القروي في «حديث المساريب»

(1) فاتحة:
النص القروي مصطلح أزعم أني صاحبه في قراءات ومقاربات نقدية حول السرد السعودي، أحاول الآن أن استكمله كمشروع نقدي أرجو أن يرى النور قريبًا !!
أقول هذا وأنا أستعد لمقاربة نقدية لنص شعري جديد نشره صاحبه في طبعته الأولى عام 1432ه. ووصلني – إهداء – في الشهر السابع من عام 1433ه، فقد وجدت في هذا النص الشعري / الديوان مجموعة جديدة من معالم النص القروي الذي أشتغل عليه سرديًا، وهذا يسمح لي كناقد أن أنقل هذا المصطلح من فضائه السردي إلى الفضاء الشعري لعلي أفتح نافذة جديدة للمقاربات الشعرية من خلال هذا المفهوم الجديد / المتجدد!! والذي أعرفه بأنه: النص الذي ينتمي للقرية موضوعًا ومادة وأحداثًا وأسلوبًا وتناولاً. أو هو النص الخام الأدبي في صورته الحكائية والتي تنطلق من الواقع دون إضافات أسلوبية أو بلاغية فيظل النص هو هو دون تدخلات لغوية إبداعية أو آفاق بلاغية متجاوزة، هذا على المستوى السردي، أما على المستوى الشعري الآن فإني أعرفه بأنه: النص الذي يستوعب السمات القروية وفضاءاتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها ومنجزاتها ولهجتها وكل ما يشير إليها عبر لغة شعرية إبداعية!!
(2) تعريف:
بين يدي الآن ديوان شعري جديد بعنوان: حديث المساريب للشاعر: سعيد عبدالله سفر، وهو الاسم الشعري / الثقافي؛ لكن الاسم الحقيقي كما جاء في فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية هو: سعيد عبدالله أحمد الغامدي، وفي هذه اللمحة التعريفية، تساؤل نقدي يفضي بنا إلى مراودة العتبات النصية من خلال هذا الاسم المزدوج.
يحمل الديوان 31 نصًا شعريًا، في 158 صفحة من القطع المتوسط مقاس 14×21، وأغلب قصائد الديوان على شعر التفعيلة كما يراه القارئ / المطلع!! ولكنها – في حقيقة الأمر – على الوزن الخليلي / العمودي / الشطري وكتبت بطريقه نثرية (سطرية) مما يوحي بأنها قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر.
***
(3) التفاصيل:
1-3 تفاجئك الصورة على غلاف الديوان، حيث تأخذك في بعد ماضوي نحو القرية وطرقاتها الضيقة التي نسميها – في الجنوب – مسارب، أو مسراب فنجد تشظيات هذه الصورة امتدادًا لعنوان الديوان (حديث المساريب) وامتدادًا للقصيدة رقم 7 من الديوان بنفس العنوان ص 37 - ص 39 مع جملة شعرية "هنا سربوا / فجرًا إلى الحقل / عزمهم حديد".
وفي كل ذلك إشارات ضمنية إلى "عتبة النص" التعريفية منذ الغلاف لتحكي – باختصار – ما في الديوان من تشظيات نصية حول هذا المرسوم أو قل الصورة !!
الجميل في الصورة أن المسراب ينتهي إلى مسجد حديث، منارته قروية شامخة وسوره جديد وذو باب جميل، بينما تبدو البيوت في الصورة ذات أسوار عالية وأحجار صلبة واضحةُ المعالم، وفي هذا دلالة على التلازم الضمني بين القديم والجديد، ودلالة على الإيمانيات والروحانيات التي تفضي لها دلالة المسجد. وكل هذا نجده في نصوص وقصائد الديوان.
2-3 في نص (الزمن الجميل) ص 7-10 وهو أول نصوص الديوان نلمس معالم النص القروي التي ألمحنا إليها في مطلع هذه المقاربة وهي (الساحات، المسراب، اللوز، المرزاب، الحلقوم، قصة السبع البنات، الدياس، الجرين، النص الشعبي" يا ليتني يوم الدياس غايب /أرعى الغنم في غمق الشعايب / هبي يا هبابة / هبي يا هبابه / هبي ولك عادة") كل هذه الكلمات ذات الدلالات القروية يوظفها الشاعر متلمسًا من خلالها الزمن الماضي، زمن القرية والأجداد والعيد البريء (الزمن الجميل) كما وصفه الشاعر.
3-3 وفي النص الجامع المانع – من وجهة نظر الشاعر – المعنون ب"حديث المساريب"، والذي اختاره الشاعر ليكون عنوانًا للديوان بأكمله، وهذا ما لم يرق لوجهة نظر المقاربة الشعرية التي أتبناها الآن – كما سأبينه لاحقًا – نلمح فضاءات القرية، وعلامات النص القروي على استحياء، فليس ثمة مفردات صريحة تشي بالقرية وتحولاتها، وإنما معاني وإلماحات من مثل: " أصخ أيها الساري / ستسمع صوتهم / ستسمع حول النار حين تسامروا / حكايات الأولى كانوا هنا وترحلوا / هنا زرعهم بعد الحصاد مكوم / هنا سربوا / فجرًا إلى الحقل / سكونٌ يلف الأرض تلك / فلا ترى ..." ص 37-39.
هنا نستغرب -نقديًا- كيف راق للشاعر أن يختار هذا النص القصير، غير الشعري، والتقليدي جدًا في معانيه، والمباشر في تعاطيه، عنوانًا للديوان بأكمله ؟! والأجدر منه – في وجهة نظر المقاربة الشعرية – هو نص الزمن الجميل! ففيه كل أحاديث المساريب ودلالاتها القروية المباشرة والضمنية!!
إلا أن السبب في اعتقادي هو العنوان المثير شعريًا ولكنه لا يحمل سياقاته القروية، ولا يسرب فضاءاته الشعرية إلى داخل النص القصير. ولعلي هنا أقترح على الشاعر أن يضيف هذا النص إلى النص السابق (الزمن الجميل)، ليصبح مقطعًا مكملاً أو فاتحة للقصيدة.
4-3 وفي النص الثاني عشر في هذا الديوان المعنون ب"تهويمة قيسية"، نجد القرية وفضاءاتها ودلالاتها حاضرة بشكل شاعري، بدءًا من المطلع الفلسفي الرائع: "عندما كنت صغيرًا / كانت الأشياء / تبدو لي كبيرة / وأنا الآن كبير / فلماذا صارت الأشياء في عيني صغيرة ؟!" ص61 .
وامتدادًا للمقطع الثالث: "كان سوق القرية / الرابض منذ آلاف السنين / في عيني كبيرًا / جبل الخربان / جبل يلتاث بالغيم / منذ أن فتحت عيني / شامخًا كشموخ الطيبين / صار في عيني صغيرًا / هل تغيرت أنا / أم أن ما حولي تغير ؟!" ص62. .
هنا نلمس – نقديًا – زمن التحولات والتغيرات التي تحدثها المدينة والمدنية في النفس الشاعرة، فعندما تعود إلى القرية ترى كل شيء متغيرا: الكبير يصغر، والسوق الفسيح القائم منذ آلاف السنين يصبح أكثر ضيقًا، والجبل الشامخ المجاور للضباب والسحاب يتقازم!! كل هذه التغيرات توحي شعريًا بالحالة النفسية التي تعتري الشاعر العائدِ للقرية وللطفولة القروية.
في هذا النص نجد معالم النص القروي: سوق القرية، جبل الخربان أحد معالم القرية التي ينتمي لها الشاعر وهي القرن / بني سالم إحدى قرى منطقة الباحة.
الجميل في هذا النص المقطع الفلسفي الثاني:
"ولماذا كلما حاولت أن أمسك بالأشياء تنأى؟! / وكأني عابث ألحق ظلي.. / ولماذا كلما جئت أغني..
تهرب الأحرف مني؟! / ولماذا لحظة الفرحة تبدو حلمًا.. / وابتسام الطفل يغدو ألما؟!" هنا تتنامى الشعرية والديالوج الداخلي بين الواقع والنفس، الواقع الذي يعيشه الشاعر مدنيًا والنفس الطفلة التي تستذكر القرية وإشعاعاتها الأولية.
القرية هنا تمثل الزمن الجميل / زمن الطفولة والبراءة. زمن الطهر والعنب الرازقي، وأغصان اللوز التي تشد ثياب الغمام، زمنٌ له نكهة الأرض، وزهو الحضارات كما يصفه الشاعر الدكتور صالح بن سعيد الزهراني في قصيدة رائعة بعنوان (شجر الفحشاء) يقول فيها:
"منذ أقبلت في كيس ماء على ربوة في جنوب البلاد... / يظللها العنب الرازقي وأغصان لوز تشد ثياب الغمام. / وللشجر الحر لون المداد. / له نكهة الأرض، زهو الحضارات من عهد عاد" .
إلى أن يقول:
"ولما دخلت المدينة / ترجلت عن صهوة الطهر / أسرجت رجلي / ودافعت سيل العابرين /.../ تذكرت نوارة اللوز والموز / عشًا تلاعبه الريح / طفلاً يطارد جيش الجراد".. [من قصيدة: شجر الفحشاء، مجلة الآطام، العدد الخامس جمادى أولى 1420ه].
في هذا المقطع الفلسفي الجميل تبدو ثنائية الرغبة والتحقق، فالشاعر يرغب في إمساك الأشياء.. لكن هذه الرغبة لا تتحقق (الأشياء تنأى) والشاعر يرغب في الغناء.. لكنه لا يستطيع (تهرب الأحرف مني) والشاعر يبحث عن لحظة الفرح.. فتبدو حلمًا صعب التحقيق وابتسام الطفل مطلب وغاية.. ولكنه يغدو ألمًا!!
كل هذه التراجيديا التي يحكيها الشاعر فلسفة شعرية تعود الى ثنائية القرية / المدينة، وما تحدثه من تحول في الذات الشاعرة والنفس المتجددة.
ولا يفتأ القلم النقدي باحثًا عن معالم النص القروي فيقف عند هذا الحد على أمل أن يبقي للقارئ فسحة من القراءة الواعية يستكمل بها هذا الفضاء القرائي الجميل.
***
(4) خاتمة
... وهكذا تواصلنا نقديًا مع عوالم شعرية ينهض بها هذا الديوان الجميل وصاحبه الأجمل، من خلال مراودة (النص القروي) الذي وجدت أن الديوان يحفل به ضمن طروحات شعرية أخرى، لكن الفضاء القروي / معنى ودلالة، استجاب له القلم النقدي والمقاربة النقدية، فكانت هذه الإطلالة. مع العلم أن في الديوان آفاق شعرية يمكن لناقد آخر أن يتعالق معها ومنها ما يلي:
* أفق النص الغزلي العفيف، فهناك مجموعة من النصوص الجميلة التي تتحدث عن القلب والعاطفة والحب والجمال.
* أفق المعاصرة والثورات العربية، بدءًا من سقوط الطاغوت وأحرار تونس ورسالة إلى هولاكو، زنقة زنقة!!
* أفق الوجدانيات والشعر الذاتي والذكريات التي يحولها الشاعر قصائد ذات غنائية عالية. وغيرها من الفضاءات النصية التي تتجلى للقارئ الواعي والناقد المتميز.
لكني سأختم بلمحة نقدية لنص قصير يدل على إيجابية الشاعر ونظرته المتفائلة للناس والحياة، وهو النص قبل الأخير بعنوان (الهم من وجهة نظر أخرى) وهو عنوان تقليدي، صحفي، غير شاعري البتة. ولكن مضامين النص شعرية إبداعية وفلسفية فيها جمالٌ وجاذبية وحيوية يقول:
"إذا طرق الهم بابك / أدخله / ثم أوقد له مجمر القلب / وأدر قهوتك / وقل أيها الضيف / أهلاً حللت وسهلاً وطئت / ولا