بالرغم من استمرار حرب التحرير منذ 1568م وحتى 1648م، فقد عاشت هولندا عهدها الذهبي في القرنين السادس والسابع عشر. وانتشرت أسماء المقاطعات والمدن الهولندية في العالم، مع عصر الاستكشاف الذي سرعان ما تحول إلى عصر الاستعمار للسيطرة على التجارة العالمية في الشرق والغرب. ومن المؤسف أن تحول الشعب الهولندي اللطيف والمنفتح، الذي يفتخر بمساواته وتسامحه وحرصه على الحلول التوافقية، من ضحية اضطهاد الحكم الإسباني ومحاكم تفتيشه إلى جلاد لغيره من الشعوب. أنشأت هولندا أول شركة مساهمة حديثة عابرة للقارات وهي شركة الهندالشرقية الهولندية (الشهيرة باختصار اسمها VOC)، والتي تنافست بشدة مع نظيرتها البريطانية الأشهر على التحكم في التجارة بشرق العالم، الأمر الذي أدى إلى عدد من الحروب الإنجليزية الهولندية. كما أنشأت شركة الهند الغربية الهولندية التي عملت في غرب أفريقيا على تجارة الرقيق، والاستعمار في القارتين الامريكيتين. وأنشأ الهولنديون أول سوق أسهم في العالم، لبيع وشراء أسهم هذه الشركات، ولايزال مبنى أول بورصة أسهم في العالم موجودا في وسط مدينة أمستردام. وأصبحت هولندا محط أنظار العالم كأكثر دوله تقدماً، وزارها بطرس «العظيم» قيصر الروس ومؤسس الإمبراطورية الروسية، عندما كان شاباً في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، متنكراً كعامل بسيط ليتعلم من تقدمها الصناعي وبالذات تقنيات بناء السفن، ونقل ما تعلمه للعمل على تحديث وتطوير روسيا. شمل الاستعمار الهولندي في الشرق أستراليا باسم هولندا الجديدة، ونيوزيلاندا التي يعني اسمها مقاطعة زيلندا الجديدة، إضافة إلى جزيرة فورموزا وهي تايوان الحالية، وإندونيسيا التي لم تستقل عن هولندا إلا في عام 1945م، وتنتشر المطاعم الإندونيسية إلى اليوم في هولندا، وهو يشبه انتشار المطاعم الهندية في بريطانيا، إضافة إلى ذلك احتلت هولندا أجزاء من الهند والصين، التي تعلموا منها صناعة السيراميك وأنشأوا شركة دلفت الملكية التي مازالت تعمل إلى اليوم، ومنتجاتها من أكثر التذكارات شعبية بين السياح. أما في جنوب أفريقيا، فأقام أحفاد المستعمرين الهولنديين نظام الفصل العنصري الشهير، وفي أمريكا استعمر الهولنديون جزيرة مانهاتن وأطلقوا اسم امستردام الجديدة على جنوبها، أما شمالها فحافظ على اسم هارلم إلى اليوم، وسموا كامل المنطقة الأراضي المنخفضة الجديدة. هنا أود التوقف عند القصة الشهيرة لجزيرة مانهاتن، التي تقول: إن الهولنديين اشتروها من إحدى قبائل الهنود الحمر مقابل ما يساوي 24 دولارا! وعلينا أن نتذكر أن 24 دولارا (أو 60 جلدارا، في العملة الهولندية القديمة) في عام 1626م تغفل عامل التضخم، الأمر الآخر والأهم هو ما يشير إليه المؤرخ جيمس لوين (James W. Loewen) بأن الهولنديين في واقع الأمر اشتروا الجزيرة من القبيلة الخطأ! لأنها غير القبيلة التي كانت تقطن مانهاتن! لكن هذا الأمر لم يكن ليهم المستعمرين، الذين كان همهم مجرد شكليات التعامل «الحضاري» مع السكان الأصليين وليس حقيقتها. وعلى العموم يوجد خلاف كبير حول صحة القصة من أساسها وحول القبيلة التي تم الشراء منها، بالذات مع عدم العثور على الصك المزعوم، وإنما ذكرت الصفقة في رسالة من ذلك الوقت. وفي موقع الحصن الهولندي الذي كان مقر حكمهم، أقيم مبنى للجمارك لميناء نيويورك الذي تحول إلى فرع المتحف الوطني للهنود الأمريكيين (الحمر)، ومع نهاية العصر الذهبي الهولندي، برزت الإمبراطورية البريطانية لتعيش بدورها عصرها الذهبي، وورثت معظم المستعمرات الهولندية بما فيها نيويورك وحصنها، التي حولت اسمها إلى يورك الجديدة نسبة إلى إحدى المدن الإنجليزية.