الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون قال لصديقه وزميله في المحاماة نيل غارمنت، في ساعة صفا: (إنك لن تنجح في السياسة أبدا يا نيل. إنك ببساطة لا تعرف كيف تكذب). هذه المصارحة وردت في كتاب أنطوني سمرز (غطرسة القوة: عالم نيكسون السري)، هل تعني أن إدارة السياسة تتطلب بالضرورة الكذب لتحقيق الأهداف، وهل هذا ما نراه يتجلى في المشهد السياسي العالمي؟. في أمريكا، حيث تسخن الانتخابات، يقدر المختصون بالإعلام والعلاقات العامة أن المرشح الجمهوري دونالد ترمب ربما حصل على إعلام مجاني (free media exposure)، بما يقارب الملياري دولار، منذ بدء الانتخابات وحتى الأسبوع الماضي. يعزون ذلك، أولا، إلى قدرات ترمب الشخصية كمتخصص في الترفيه الرخيص وصناعة النجوم، وثانيا، الى قدرته على المعارضة الجريئة للقيم والأعراف العامة لمؤسسة الحكم في أمريكا، وأيضا لقدرته الكبيرة على: (الكذب!). لا شك أن ترمب نجح في الانتخابات التمهيدية، وهذا التقدم يُفزع قادة الحزب الجمهوري، ويخيف النخب السياسية والاقتصادية التي ترى قوة أمريكا في تسامحها وانفتاحها، وما يقوله ترمب ويفعله يتعارض تماما مع صورة أمريكا العظيمة في عيون العالم. يبدو أن أمريكا في نهاية حقبة رجال الدولة الحقيقيين، ولدينا الرئيس باراك أوباما.. الآن في البيت الأبيض وفي آرائه الأخيرة عبر (مبدأ أوباما) يدشن هذه الحقبة لأفول (رجال الدولة الكلاسيكيين) الذين ينظرون للمستقبل ويستهدفون بناء وتعزيز مصالح الشعوب، بعكس (رجال المرحلة) الذين يستعذبون السلطة ويستحلبون خيراتها لأنفسهم. المرشح الرئاسي دونالد ترمب يتقدم في حملته الانتخابية بنجاح لانه يقول للأمريكيين المتعصبين المنغلقين على أنفسهم (ما يحبون سماعه)، فكلامه ينزل على آذانهم كالموسيقى مثل: إيقاف الهجرة، طرد المسلمين، محاربة أعداء أمريكا في الخارج، وترمب ينجح لانه يطبق مبدأ الدعاية النازي، اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدق الناس. قبل أسبوعين أحصت مجلة بوليتيكو عدد الكذبات التي أطلقها ترمب في أسبوع وبلغت كذبة كل خمس دقائق، ومنها كذبات كبرى انطلت حتى على وسائل الإعلام الرئيسية التي أخفقت مهنيا وأخلاقيا في الوقوف عندها، ومنها، على سبيل المثال، أن اليابان تغرق أمريكا في الصادرات ولا تستورد قطعة واحدة من أمريكا. كذبة مدوية، صفق لها الجمهور في الحفل الانتخابي! والصحافة الأمريكية تبحر مع ترمب في عالم الإثارة السياسية الجديدة. المؤسف أن حالة الكذب سوف تشهد توسعا مذهلا مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي التي تتيح التفنن والإبداع في صياغة الكذب، وثمة مؤشرات لولادة (صناعة الكذب)، كأحد المغذيات الحديثة للاستهلاك الثقافي، ولهذه الحالة آثارها السلبية على أداء الحكومات وتفاعل الشعوب. هذه الحقبة سوف تشهد توسع المجال لازدهار (المؤدلجين والدماجاغ) والشعبوية. تطور تكنولوجيا المعلومات واتساع مساحات وتعدد أدوات التواصل الاجتماعي واختفاء الموانع والعوائق التقليدية أمام تدفق المعلومات بين الشعوب، قد يكون شرا مستطيرا اذا تم استغلاله لمصالح خاصة، والدعوات المتطرفة بأشكالها العديدة تزدهر مع تطور التواصل بين المجتمعات، لأنها تُسهل دخول الانتهازيين والمنتفعين، وهؤلاء أصواتهم تعلو دائما. إننا في حقبة حيث الأيام حبلى يلدن كل عجيبة!