تُطرح الديمقراطية عند مجموعة من النخب العربية اليوم كايديولوجية، ترتقي في بعض مستوياتها لشعارات الخمسينات والستينات، تلك التي حملها بعض الأحزاب السياسية كخشبة خلاص، من أزمات الأمة بما فيها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، في حين أن أبسط قراءة لهذا النموذج من الحكم، قد تفضي لتقليص روح التفاؤل لهذه النظرة الرومانسية. يأخذ البعض الديمقراطية كمنتج استهلاكي، يمكن استيراده من الغرب، ولو على ظهر دبابة أمريكية، أو مروحية "ناتوية" في حين أن الديمقراطية نموذج حكم ينتصب على مشاركة الشعب في اختيار من يمثله، كما يستطيع هذا الشعب أن يستبدل هذه النخبة بشكل دوري وسلمي، متى ما شعر بأنها لا تعبر عن مصالحه. ثمة من يعطي الديمقراطية أكثر من ذلك، بغرض تحويلها لذراع إيديولوجية يُلاكم بها الأنظمة، وهذا حقه، لكن فليمارسها مع مخالفيه أولاً كي نصدقه. لا شك في أن الديمقراطية النموذج الأقل سوءاً، والأكثر جاذبية في عصرنا، كونها ساهمت في رفعة الكثير من الأقوام، لكن عن أي ديمقراطية نتحدث؟ من يطرحها في وطننا العربي الآن يريد لنا أن نأخذ منها صناديق الاقتراع فقط، كي يعطي لجماعة محددة مشروعية الهيمنة على مؤسسات الدولة وتوجيه سياستها الخارجية، مستغلاً "قميص الديمقراطية" للقفز على السلطة للأبد، لكن دون تجذير روحها وشروطها التي تقوم على حرية الاعتقاد والاختيار، وعدم الخوف من التعبير عن الرأي المخالف للسائد، والتسامح مع الآخرين، وتقبلهم كما هم لا كما نريدهم أن يكونوا. في التجارب التاريخية للدول التي انتقلت لنماذج الحكم الديمقراطي، عرفت المجتمعات تحولات على مستوى البنى الاجتماعية والاقتصادية، سبقت بمراحل طويلة فكرة الانتقال نحو الديمقراطية. في فرنسا - على سبيل المثال - جرت انزياحات ضخمة تجاه فكرة المواطنة والوطن، من خلال تعزيز المساواة القانونية بين الفئات الاجتماعية، كما جرى تهشيم بعض الشرائح السلطوية والاقطاعية، لصالح البرجوازية الوطنية الصاعدة. يُحاجج بعض من يتبنى هذا الخطاب الثقافي، بأن الشعوب سوف تتعلم بالتجربة، وسوف تطور ثقافتها السياسية تبعاً لتلك التجربة، لكن الواقع في بعض الدول يثبت نقيض هذا التحليل، الذي تحول لشيء قريب من النبوءة ستحقق ذاتها؛ لأن الأسس التي بُنيت عليها الديمقراطية هشّة. لو أخذنا لبنان، هذا البلد العربي الصغير وتجربته الديمقراطية، وناقشناه بعقل بارد، لوجدنا أنفسنا أمام نموذج سياسي كسيح، لم يعجز عن التطور فقط، بل كاد في أكثر من مناسبة يعصف بسلمه الأهلي، وذلك يعود لعدة أسباب سنورد منها ما نجده يدعم فكرتنا الرئيسة، وهي أن البنى الاجتماعية والاقتصادية التقليدية لم تمس، ولم تتقدم تجاه المدنية، وإن الزعماء التقليديين يمارسون طغياناً على النظام السياسي، لدرجة تقويضه وتكسير أعمدته. من شروط الديمقراطية السلمية قيام بنى اجتماعية متجاوزة للعلاقات التقليدية، ولوجود مواطنين متساوين قانونياً، وقادرين على ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية بشكل فعال ومتكافئ، دون الحاجة لولاية من مرشد، أو توجيه من زعيم طائفة.