راج في العقود الأخيرة تصور لعملية الانتقال نحو الديموقراطية غير صراعي، ويكاد أن يكون إجرائياً. ينشغل هذا التصور كثيراً بدور النخبة السياسية وبالثقافة السياسية ومستوى الدخل والمؤسسات القائمة والظروف المساعدة، وقليلاً بالقوى الاجتماعية والصراع الاجتماعي والعنف والحرب. كان التحول الديموقراطي في أوروبا الشرقية سهّل شيوع هذا التصور. لكن الأمر يتعلق هنا ببلدان متوسطة الدخل، اقتصادها إنتاجي، تتماهى مجتمعاتها بيسرٍ بأوروبا الغربية بحكم القرابة الثقافية والقرب الجغرافي. كان الاندماج بالغرب الديموقراطي الليبرالي الرأسمالي أو الاقتراب منه مصلحة عامة لها، يكاد ألاّ يوجد في تلك المجتمعات من ينازع فيها. عزز من ذلك أنها كانت واقعة تحت هيمنة روسية فظة، فصار الاقتراب من الغرب فعلاً تحررياً. لكن هذا التحول ذاته، وانتهاء الحرب الباردة بهزيمة الشيوعية، معسكراً وأيديولوجياً، قادا إلى شيوع عالمي لتصور ضعيف فكرياً للديموقراطية ذاتها، وغير صراعي أيضاً. وهو ما فاقمته في سياقاتنا العربية الغربة اللغوية لمدرك الديموقراطية. الحدس المرتبط بالكلمة يحيل إلى صورة «اللعبة» الانتخابية، يتنافس فيها رجال أنيقون ونساء قويات، وليس إلى مفهوم «الشعب» والثورات الشعبية والصراعات الاجتماعية الكبرى. وهذا التصور شاع عربياً في ربع القرن الأخير على يد نخب محبطة، لم تعد لديها فكرة قائدة أو مشروع تغييري من جهة، ولا هي مرتبطة بقوى اجتماعية حية من جهة أخرى (ولا يندر أن يجري تحويل ذلك إلى فضيلة فكرية باسم رفض الشعبوية). قبل سنوات قليلة كان معارضون سوريون يعبرون بما يشبه التسول عن تطلعهم إلى «تغيير وطني ديموقراطي سلمي تدريجي آمن». كان النظام يعتقلهم بين حين وآخر، ويقضون في السجن سنوات! الثورات تعيد مجتمعاتنا مما بعد التاريخ (أو «الأبد») إلى التاريخ، إلى صراعاته العنيفة وإلى عمليات إعادة تشكل اجتماعي وثقافي وسياسي كبيرة، يتعذر علينا نحن المعاصرين تطوير غير إدراك سطحي لجوانب منها. الناس يعيشون حاضرهم بوعي ساذج، يقول هيغل بحق. لعله أنسب هنا، موقتاً، الكلام على «ثورات ديموقراطية» على رغم غموض المفهوم. يتعلق الأمر بصراعات اجتماعية عنيفة، يشارك فيها «الشعب»، «الطبقة الثالثة»، تدخل الحياة العامة بقوة وخشونة، واحتجاجها موجه أساساً ضد الحكم الامتيازي الذي تترابط فيه عضوياً السلطة غير المقيدة والثروات الكبيرة. وتتنوع أساليب اقتحامها للمشهد العام، لكنها يمكن أن تكون عنيفة جداً في وسائلها، وانتقامية جداً في دوافعها. مسوغ الكلام على ثورات ديموقراطية هو بالضبط هذا الاقتحام الواسع من قبل الشعب للمشهد وتمرد على حكم الإقطاعيين الجدد. أما تمخض الثورات عن أوضاع سياسية وحقوقية ديموقراطية فأمر نادر إن استندنا إلى الأمثلة التاريخية المعروفة. بعد قرن كامل من الثورة، صار يمكن الكلام على أوضاع شبه ديموقراطية في فرنسا. الثورة الأميركية، وهي أيضاً حرب استقلال، أدت إلى ديموقراطية البرجوازية البيضاء، ولزمت حرب أهلية وحشية (قتل فيها أكثر من 600 ألف، ثلثهم في الحرب) بعد أقل من قرن من أجل تحرير العبيد، وقرن آخر قبل انطلاق حركة الحقوق المدنية في الستينات. وبعد حوالى قرن من الثورة الروسية لا وجه للتكلم على أوضاع ديموقراطية في روسيا. لكن، في صراعاتنا الجارية، والصراع السوري منها بخاصة، ما قد يشكك حتى بصلاحية تصور ثورة ديموقراطية بالمعنى الذي ذكرنا. إذ إن المشترك بين الثورات الديموقراطية أن الإطار الوطني للصراعات الاجتماعية ثابت أو يكاد. يبدو في المقابل أن الصراع السوري قد يطاول الكيان نفسه، وربما يؤدي إلى انقسامه أو زجه في عملية إعادة تشكل قاسية، لا نستطيع قول شيء عنها اليوم. لكن الظاهر أن الاجتماعي والسياسي يتقاطعان مع الديني والطائفي والإثني، وأنه إذا كان الشعب يدخل المشهد السياسي من مدخل الطبقة وكسر النخبة الإقطاعية، فإنه يخرج منه من باب الانقسام الديني والطائفي. لكن «الشعب» لا يوجد نقياً في أي مكان، وهو مختلط في كل حال بالجماعة الدينية والإثنية. لا شيء يخصنا أو يفردنا عن غيرنا في الأمر. نحتاج في سورية إلى توسيع أفق تفكيرنا الاجتماعي والتاريخي، والخروج من مقاربات مغلقة لا تتيح فهم هذه العمليات التاريخية المفتوحة ولا التأثير فيها، بما فيه المقاربة الديموقراطية الشائعة في أوساطنا (لا شعب فيها). وبما فيها بالطبع المقاربة الوطنية التقليدية التي تريد تحكيم ضرب من الإجماع الوطني الموهوم في عملية صراعية بالغة العنف والجذرية. ومنها أيضاً مقاربة ليبرالية وحقوق إنسانية تنتظر من الصراع أن ينضبط بقيم سابقة عليه ومكتملة من دونه، وعمرها في أوروبا أقل من نصف قرن. فإن لم يحصل ذلك تنكفئ إلى تشاؤمها العريق، وتغني نفسها عن التأمل في المصائر البشرية بإلقاء اللوم على ما يبدو طبيعة خاصة للبشر في منطقتنا، طبيعة مريضة محمولة على عقيدة أكثريتهم. ليس هناك فكر أكثر رجعية سياسياً وتفاهة معرفياً من هذه العقيدة الرثة المنتشرة في أوساط النخب العليا في مجتمعنا منذ ربع قرن، والتي لا نشك في أن انتشارها مرتبط بالأوضاع الامتيازية والإقطاعية الجديدة التي نشأت في ربع القرن الأخير. إن كان من عائق فكري وسياسي يحول دون تجديد التفكير والفعل السياسي في أوساطنا فهو هذا المزاج الخائر، القانط، المغرور على رغم ذلك والمكتفي بعلمه الشحيح. شحيح بالضبط بسبب إهمال عالم الممارسات الاجتماعية، والتسرع في إصدار أحكام سلبية متعالية، بدل محاولة فهم شيء ما من وقائع اجتماعية وثقافية سياسية لا اختلاف أساسياً فيها عن أية وقائع مماثلة في تاريخ البشر في أي مكان من العالم. هذا التعارض بين عقول ناجزة وعمليات تاريخية متفلتة وعنيفة لا يختلف في شي عن التعارض بين هذه العمليات ذاتها وبين البنى السياسية المغلقة التي تتفجر ضدها الثورات. فعلى نحو ما تقصي البنى السياسية «الشعب» من الحياة العامة، تقصي تلك البنى الفكرية الخبرات والممارسات الاجتماعية من نطاق التفكير والتعقل كي تصون استقرارها وراحة بال أصحابها. وكما أن الثورات موسم لإطاحة تلك الهياكل السياسية القاتلة للبشر، نرجح كثيراً أن تطيح هذه الهياكل الفكرية القاتلة للحس والمعاينة والشهادة، الإقطاعية فعلاً. كم هذا جميل!