لطالما أعلنت حبي للأحساء ولأهل الأحساء، وأني واقع من قمة رأسي لأخمص قدمي في حبها. أحبها بدون أن أقدم تبريرا ولا تفسيرا، فما يفسد عطر الوردة إلا تنتيفها للبحث عن مصدر العطر، فتنتهي الوردة، ويتلاشى العطر. وأذهب للأحساء دوما، لما يتفضل أحد من أهلها بدعوتي لأي مناسبة، جذلا فرحا. ولا غرابة، فأي غرابةٍ في لقاء المحب للحبيب؟ أحب هواءها، أحب رائحة الرمل المصهور بأشعة الشمس الأرجوانية المودعة وراء سعفات النخيل المتكسرة بحياءٍ ودلال. أحب هذه الطيبة التي تدور في مدنها وقراها ومزارعها. أرسم خارطة الأحساء كقلب كبير، وأحب أن أدخل من بوابة هذا القلب. وبظني أن لا أحد يمكنه كسر قلب الأحساء، سيبقى نابضا محبة وتكاتفا وطيبة وثقافة كما عُرف عنه واشتهر. ليست هذه المرة الأولى التي أذهب للأحساء وبقلبي حزن، ففي الحادثة الأولى في الدالوة ذهبت أحمل ذات الانكسار والحزن، ومع أني لست من النوع الذي يغضب إلا أن غضبا اعتمل بقلبي، وكيف لا؟ والدماء البريئة تسري في مساريب الشوارع. وهذه المرة مدعو في السابع من شهر فبراير الجاري للأحساء، واذهب محملا بذات الألم. لم يعد يجدي أن نقول إن من يفجر بالأبرياء ليس من الإسلام في شيء، فالصحيح أنهم لا يمتون للإسلام بصلة. ديننا الأرقى والأصلح لبقاء الجنس البشري، الذي قدر الروح البشرية المفردة وساواها بكل الناس جميعا. دين التهذيب، والمحاورة بأدب، وتقبل الناس رغم اختلاف اللون والجنس والعقيدة.. لأنه ليس دين شخص واحد، ولا دين جماعة، ولا دين شعب، ولا دين أمة، بل هو دين للناس أجمعين. كونه للناس أجمعين هو سبب انتشاره في سنوات قليلة من حيز المدينةالمنورة الضيق لفساحات العالم الشاسعة. كل مسَجِّلٍ للتاريخ الإسلامي ودارس له يقف مدهوشا بكتاباته وتوثيقه للتوسع الخيالي للإسلام من توسعه المذهل من مكان صغير بالحجاز، إلى امبراطورية وصلت لمشارف نهر الفولغا (الروسي حاليا) فقط في عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. "محاسن"، هذا الاسم الجميل، مكان جميل هادئ لم يؤذ أحدا، أوذِيَتْ إيذاء أكبر. من آذاهم ليس منا، قطعا ليس منا. إنهم ينتمون لعالم آخر غير عالمنا جميعا، عالم السواد والإظلام والجهل والكراهية، وحب الدم، بل الولغ به.. بل السباحة به. ليس من فجر نفسه ومن اقتحم إلا ضحية صنعه كارهو الدنيا وما عليها وطمسوا براءته الأولى واستغلوها وجعلوه مكنة موت متحركة له ولغيره. واعترف لكم أن هؤلاء الذين يكرهون الأرض ومن يمشي عليها ليسوا ناسا هيّنين، هم عباقرة في تنميط العقل وليس فقط بتغييره، فتغيير العقل أمر صعب، أما تنميطه وقولبته وكأنهم ينتجونها في حزام تجميع واحد يدعو للعجب. العجب بالقدرة والمهارات النفسية الفائقة التي تختطف -جسدا وعقلًا- شباباً أنفق عليهم أهلهم تعليما وتأديبا وتربية سنوات طوال، ويحولونهم كراتِ لهبٍ جحيمية تنفجر بوقتٍ ما، بمكانٍ ما. إن التصدي لهؤلاء هو بذات الداء الذي سمموا به أولادنا، ولكن بعد أن نصفي الدواء ونخلصه من السموم ونجعله سائغا لإنبات وريقات الخير الأولى والثابتة بقلوب وعقول الشباب، وهذا يحتاج ليس ذكاء وعبقرية وقراءة للنفس البشرية كما عند كارهي الحياة.. بل أن يتم التفوق عليهم. كيف؟ هذا السؤال الذي يجب أن نواجه به أنفسنا وإلا، وبصراحة مؤسفة إن لم نفعل فهو اعتراف مُبَرهنٌ منا ضدنا بأنهم أحدّ منا ذكاءً ومهارة بالتحكم بالعقل والنفس البشريين. كل مرة أذهب للأحساء يدور مفتاح داخلي ويضيء روحي ونفسي ويعدل مزاجي. هل سيدور المفتاح هذه المرة أمام إطلالة أول سعفةِ نخلٍ أحسائية؟! هذا ما أرجوه، وما أتمناه. في حفظ الله جميعًا.