مع سيادة الصورة وثقافة العين، أضحى الفن التشكيلي العربي مطالبا بأن يكون له دور بارز في تناول القضايا التي تخص الإنسان بكل جوانبه الإنسانية، وأن لا يقتصر دوره على الإمتاع البصري كما هو ملاحظ في الأغلب الأعم، وإنما أن يكون له دور فعال في نقد الواقع بطريقة جمالية. فهل حدد الفنان التشكيلي العربي موقفه من هذا الواقع؟ وهل يدين من خلال إبداعه ما تطالعنا به الفضائيات من مآس؟ أم أن اللامبالاة والتحجر البؤبؤي المزمن جعلانا لا نشعر بأهمية القضايا الإنسانية؟ وهل يسهم الفن في اقتراح بدائل لعالم عربي يسوده العدل والمساواة والتسامح والحب؟ وتصبح الأعمال التشكيلية بالنتيجة وثيقة إدانة ترفع في وجه من صنعوا الوضع الدموي والمأساوي الحالي أو أسهموا في صنعه، حيث أضحت حرمة الإنسان هي آخر ما تتم مراعاته في ظل حضارة تدمَّر وقلوب بشرية تؤكل ورؤوس تقطف وتؤخذ معها صور تذكارية نكاية في التاريخ وفي عيون العالم، وأطفال يتساقطون تحت القنابل، وأسر تدك فوق رؤوسها بيوتها، وفي أفضل الحالات تشرد في المخيمات والمطارات. في الغرب هناك فنانون تشكيليون حققوا خلودهم وخلود أعمالهم لمّا لم يقتصر إبداعهم التشكيلي على تحقيق المتعة البصرية للمتلقي، وإنما شاركوا بفنهم في انتقاد الواقع وإدانته، وإدانة كل من يسيئون لإنسانية الإنسان، وسندلل على ذلك بنموذجين لنقف على مدى قدرة الفن التشكيلي على التعبير عن مأساة الإنسان تطلعا إلى التغيير والإسهام في نشر العدالة والحرية والسلام دون إغفال الجانب الجمالي. إنهما لوحة الجورنيكا لبيكاسو ولوحة الصرخة لمونك، اللتين حققتا خلودهما وفرادتهما للتعبير عن مأساة الإنسان وعن بشاعة الحرب وآلتها المدمرة، واقتراح عالم أفضل يسوده السلم والسلام والمحبة والتسامح. (الفنان إنسان له حس سياسي، يقظ أمام أحداث العالم السعيدة والمؤلمة، التي تنعكس عليه وتؤثر فيه). (ليست مهمة الفنان تزيين البيوت). (الفن آلة حرب هجومية ودفاعية ضد العدو). تلك كلمات بابلو بيكاسو، الذي انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وظل مخلصا لالتزامه المبدئي طوال حياته. فن بيكاسو فن متمرد، ثائر، خارج على القانون، يؤكد يوما بعد يوم ارتباطه الوثيق بالقيم الحقيقية للحرية. وليس صدفة أن يكون أشهر فنان في هذا العصر ملتزماً التزاماً كلياً وعضوياً بالقضايا الكبرى في عالمنا المعاصر، قضايا الشعوب المتعطشة للحرية، كان موقفه دائما إلى جانب قوى التقدم والديمقراطية في كل زمان ومكان، رسم أروع اللوحات التي تدين الحروب الاستعمارية وتكشف الوجه القبيح للفاشية، رسم أنشودة السلام، وبهجة الحياة السعيدة وأماني وتطلعات الشعوب نحو حياة أفضل وسلام دائم. في عام 1936 دمر الطيران الألماني مدينة (جيرونيكا) الشهيرة، انفعل بيكاسو فرسم لوحته الشهيرة (جيرونيكا) التي تغلب عليها الألوان الأسود والرمادي والأبيض، فكانت هذه اللوحة أول همزة اتصال بين بيكاسو وبين نظام فرانكو ونظامه الفاشي.