قال يا كثر حكيكم، ردوا: من كثر تكراره وترديده! فيما يلي شطر من مقال نشرته في العام 1999 حول ضرورة تحول الاقتصاد السعودي. وكما يعلم المتابع، فتلك الفترة كانت فترة استدانة ونقص في إيرادات الخزانة نتيجة لتراجع سعر النفط: «يلاحظ المتابع للشأن الاقتصادي السعودي أن النقاش طال حول المسؤولية الاقتصادية، إذ أن هناك مدرسة فكرية تعتمد مبدأ «ريثما يرتفع سعر النفط» كأساس، لكن الأسعار قد لا ترتفع أو ربما تأخر ارتفاعها ما يضطرنا إلى مواصلة الاقتراض من الأحفاد! ومن الملاحظ كذلك وقوع البعض فريسة لمرض «هُم»، فنقاشهم للمسئولية الاقتصادية يقوم على رمي المسؤولية برمتها بعيداً عن أنفسهم: «عليهم هم أن يفعلوا كذا وكذا قبل أن نفعل نحن، وعليهم هم أن يمنعوا كذا وكذا، وعليهم هم أن يُعَدلوا كذا وكذا.. وعليهم هم أن يتحملوا كذا وكذا..». ويلاحظ وجود من يتناول الأمر من منظور «أنا ومن بعدي الطوفان»، فالهدف أن تنفق الحكومة وتستمر في ذلك سواء اقترضت أو باعت ممتلكاتها أو فعلت أي شيء آخر، المهم أن لا تقع عليه أعباء. وهناك من يلمح ولا يصرح بأن لدى الحكومة مجالات أخرى كثيرة ينبغي عليها استكشافها لتوفير المال قبل حتى التفكير في زيادة الرسوم. وهناك من رجال الأعمال من يتنصل من أي علاقة لتمويل الخزينة العامة باعتبار أن ذلك من أعمال السيادة الاقتصادية! وهناك من رجال الأعمال من يعتقد أن مجرد ممارسته العمل في السعودية مكسب للاقتصاد المحلي، فلا يجب أن يطلب أحد منه رسوماً وضرائب على الرغم أنه يجلب معظم مستلزمات الإنتاج - بما في ذلك اليد العاملة - من الخارج ليبيع محلياً. أما الحكومة فتقول إن هناك أزمة ولا بد أن يتحمل كل طرف جزءاً من العبء. أعلنت الموازنة العامة السعودية لسنة 1999 وفيها التزام واضح باستمرار الحكومة في تمويل برنامج الرفاه. إذ سيستهلك الإنفاق على التعليم والصحة والبلديات والإعانات الاجتماعية والخدمات أكثر من ثلثي الإيرادات، ويتجاوز نصف الإنفاق المقرر في الموازنة والذي تتوقع الحكومة أن يكون 165 بليون ريال. ويلاحظ أن هذا المستوى من الإنفاق يقل بنسبة 12.7 في المئة عما أنفقته الحكومة فعلياً عام 1998. ويلاحظ أن الإنفاق الفعلي للسنة المالية 1998 انخفض عن التقديرات التي أعلنتها الحكومة السعودية بداية العام المالي 1998 بنسبة 3.6 في المئة، إذ كان الإنفاق المتوقع 196 بليون ريال، أما الإنفاق الفعلي فبينت المصادر الرسمية أنه 189 بليون ريال. ولعل من المناسب بيان أن التعليم والصحة سيستأثران بنحو 61.6 بليون ريال تقريباً من إنفاق الموازنة في العام 1999، وهو ما يعادل ما رصد لهما العام الماضي. ولعل من السمات البارزة في الموازنة انخفاض الإنفاق عن عام 1998، وهذا يمثل تحدياً. إذ يلاحظ أن الإنفاق الفعلي في موازنات الأعوام الأربعة الماضية - على سبيل المثال - كان أعلى من الإنفاق المتوقع للسنة 1999، فبلغ حوالى 174 بليون ريال و 198 بليوناً، و221 بليوناً و189بليونا للأعوام 95 و96 و97 و98 على التوالي. ولعل تحقيق الخفض سنة 1999 ينتج عن التقشف أو من مراجعة أولويات الإنفاق فتأخذ قطاعات التنمية احتياجاتها ليطال الخفض قطاعات أخرى، أو عن جهود الخصخصة. وربما كان مقبولاً القول ان التقشف بمفرده قد لا يجلب خفضاً كبيراً في الإنفاق، اذ تجدر الإشارة إلى أن الموازنة السعودية تعاني عجزاً منذ العام 1983، وخلال هذه الفترة 1983-1998 تراوح العجز بين 2.9 في المئة و25.3 في المئة من اجمالي الناتج المحلي للسعودية. وقدر العجز العام الماضي بحوالى تسعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية. ومن الناحية الاقتصادية انكمش الاقتصاد السعودي خلال العام 1998 بوضوح من 547 بليوناً إلى 488 بليوناً بالأسعار الجارية. ويبدو أن أداء سوق النفط للعام 1998 ساهم في إعادة ترتيب الأهمية النسبية للقطاعات الاقتصادية الرئيسية، لتكون المساهمة الأكبر للقطاع الخاص 191 بليون ريال ثم القطاع الحكومي بما في ذلك الرسوم الجمركية 15.6 بليون ريال. أما قطاع النفط فبلغت مساهمته 141 بليون ريال. فيما كان قطاع النفط متصدراً عام 1997 بمساهمة قدرها 214 بليوناً، والقطاع الخاص 191 بليوناً، والحكومة 148 بليون ريال. ولعل ليس من المبالغة القول إن الهاجس الرئيسي أمام الاقتصاد السعودي في المدى المتوسط والبعيد لا يكمن في تحسن أو تدهور أسعار النفط، بل في تحقيق تحول نوعي يستفيد من معطيات الاقتصاد العالمي، التي تتغير جذرياً، ما يوجب التعجيل في حسم أمور تتعلق بتحقيق قفزة نوعية في عالم العولمة الاقتصادية. وتحقيق أي مكسب في هذا المجال يقوم على التحول من اقتصاد عماده إنفاق الخزينة العامة إلى اقتصاد عماده المستهلك القادر على الإنتاج والإنفاق. ويمكن الجدل أن تحولاً من هذا النوع لا بد أن يرتكز إلى أسس، منها: إعادة رسم أدوار الحكومة والقطاع الخاص والأفراد، والتزام كل طرف بدوره وتحرقه لتنفيذه بكفاءة، وحرص الأطراف وخصوصاً الحكومة على عنصر الوقت الذي لن يمهلنا كثيراً. وتتجسد قناعة والتزام كل طرف (الحكومة والقطاع الخاص والفرد) في محاور عدة أهمها: -كيف تحور الحكومة دورها الاقتصادي من الممارسة المباشرة إلى الإشراف؟ -كيف ترشّد الحكومة عونها، فلا يصل المال إلا إلى معوز لينقطع عنه عند خروجه من عوزه؟ -كيف تتصرف الحكومة مع مؤسساتها الاقتصادية التي تحقق خسائر مليارية سنوياً؟ -كيف تمول برامج التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية من دون اقتراض ومن دون إثقال على المواطن؟ -كيف يساهم القطاع الخاص في تمويل الخزينة عند الحاجة، طبقاً للنظام الأساسي للحكم المادة 20؟ -كيف يتحمل الفرد أعباء معيشته ما دام مقتدراً؟ على الرغم من أهمية النفط السعودي للعالم، إلا أن الاقتصاد السعودي ليس نفطاً فقط. وإذا كان هناك من يقول ان هذا الاقتصاد يعتمد على النفط فقط، فلا نريده أن يبقى كذلك في المستقبل سواء واصلت الأسعار انخفاضها أم ارتفعت. اذ ساهمت سوق النفط لأكثر من عقد من الزمان في أرجحة إيرادات الخزينة العامة، ما أدى إلى جعل العجز ملازماً مزمناً للموازنة العامة على مدى عقد ونصف تقريباً. وأدى إلى فرض صيغة تقشفية على الإنفاق الحكومي، بما في ذلك برنامج الرفاه من تعليم وصحة وخدمات شخصية واجتماعية، وظهرت بوضوح حاجة الاقتصاد السعودي الى التعامل مع الأزمة. ويمكن الجدل أن الاقتصاد السعودي ككل ليس في أزمة، فالأزمة تحديداً تقبع في الشطر النفطي من الاقتصاد السعودي، وهو الذي يغذي الخزينة العامة، اذ تمثل الإيرادات النفطية ثلاثة أرباع إيرادات الحكومة. أما القطاع الخاص السعودي فيتأثر عند تراجع إيرادات النفط تراجعاً كبيراً. ومع ذلك لا ينطبق عليه اقتصادياً ما ينطبق على الحكومة، فهي ملتزمة بالإنفاق على برنامج رفاه طموح، فمثلاً بلغ ما رصد للتعليم عام 1998 حوالى 45.6 بليون ريال 12.2 بليون دولار، وللصحة 19.7 بليون ريال، والضمان الاجتماعي 7.2 بليون ريال، وحتى الخدمات البلدية التي تكتفي ذاتياً في معظم البلدان تمول الخزينة العامة العجز في إيراداتها بحوالي 6.1 بليون ريال.»