أستلقي في (البانيو) الوحيد في البيت، بعدما جعلْته يغص بالماء البارد، فتداعى الماء الفائض خارجا، وقت ما بعد الظهيرة يكون ملائما للاسترخاء، حيث ينام جميع إخوتي بعد عودتهم من مدارسهم، وتخرج أمي لزيارة الجارات فهذه عادت من السفر، والثانية ولدتْ ابنتها، والثالثة زوجها مريض فهي حبيسة المنزل وبحاجة لتواجد النساء الدائم حولها ليخففن عنها ملل الحبس الاضطراري، ويصبّرنها على ما أصابها (كما تقول أمي)، ولكن حدسي اللعين يخبرني بأنهن عبء إضافي عليها، ألا يكفيها أن زوجها مريض وبحاجة لرعاية، حتى يزدن تعبها بترتيب مكان جلوسهن واعداد ضيافة يوميا. آآآه.. على كل حال هذا مصير من يكون بيته داخل حينا، لابد أن يسلم جزءا منه إلى جيرانه طوعا أو كرها وإلا سيناله غضب شديد. لا يعكر صفو هدوء نفسي هذه اللحظة سوى رائحة الفاصوليا التي بدأت تتصاعد وتداعب أنفي، فالنساء هنا يقمن بإعداد وجبة العشاء باكرا جدا عليهن الطبخ وعلينا التمتع بالروائح. في هذا الحي تتقابل البيوت في خطين متوازيين، يطلان على الشارع العام الذي يحده من طرفيه دكانان كمصباحين كبيرين يزينان الشارع، يتهافت الأطفال ليلا ونهارا عليهما لشراء الحلويات والآيسكريم. ولأن شارعنا يعتبر ضيقا نسيبا فزعيق السيارات لا يهدأ، وطوال ذلك الوقت علينا أن نحتمل نحن داخل البيوت كل تلك الفوضى، فالنائم يستيقظ، والمستيقظ يفر إلى أقصى نقطة داخل البيت. مازلنا نسمع صراخ جارتنا وهي توقظ أبناءها صباحا، ونزاعات جارنا مع إخوته، ونشم رائحة قهوة، ورائحة طبخ المكرونة يوميا، إننا نعرف ما يأكلون وما يشربون، وربما ما ينوون القيام به! أشعر أن الحياة تتقدم في المناطق الأخرى، وحيّنا يظل كما هو البيوت ذاتها، والشخصيات شبه دائمة، فحين يغادر أحدهم فإنه يُسكِن في البيت عائلة ابنه الكبير أو أخاه وهكذا يتوارثون المساكن والأعجب أن لديهم سلوكيات مشتركة، لا يمكننا أن نفرح بالتخلص من أحدهم حتى نكتشف أن الذي بعده مثله بل يفوقه أحيانا. يبدو أنني لن أستطيع تذكر كل تفاصيل الحي، فجارتنا (الزهية) مثلما يطلق عليها النساء لسرعة مشيها وتنقلها من حارة إلى أخرى في وقت قصير، قد دخلت البيت، سامحك الله يا أمي، لا أدري لماذا يُترك باب البيت مفتوحا، هكذا العادة جرت أن باب المنزل طوال النهار لا يوصد وبالتالي لابد أن نستعد لأي هجوم مباغت شئنا أم أبينا، وهاهي أتت كعادتها تعتبر بيتنا مرتعا يوميا، في أوقات فراغها كلها، وبعض النسوة غيرها أيضا لديهن ذات التصور، ففي بيتنا يتحدثن قدر ما يشأن ويفضفضن كيفما يردن، وسيقدم لهن ما لذ وطاب دون أن يشعرن بتذمر صاحبة المنزل/ أمي، والتي اعتادت أن تستقبلهن مهما كانت ظروفها حتى فقدت قدرتها على الاعتذار عن زياراتهن، وصارت حين تضطر للخروج حاليا أن تستخدم الحيلة تلو الحيلة، تلف جسدها بعباءتها وتسدل الطرحة السوداء على وجهها، تفتح الباب الخلفي برفق تطل أولا لتتأكد من أن إحداهن لا تمشي في شارعنا وبعد أن تطمئن تفر من البيت كمجرمة كي لا يلمحنها! وقد تلتفت أحيانا حين تصل رأس الشارع لترى إذا ما إحداهن تطرق بابنا أو تقف عنده. «ما فيه أحد بالبيت.. وينكم؟» «الزهية» تنادي فتحتْ الباب وتوجهتْ مباشرة إلى صدر الصالة، لم يعد لنا خصوصيتنا منذ زمن، وتنادي مرة أخرى عند باب السلم السفلي «فيه أحد؟» وتتمتم بينها وبين نفسها بانزعاج: «وين راحوا غريبة». هل يتوجب علينا البقاء في انتظاركِ!؟ لن تتنازل حتى يرد عليها أحد يا إلهي لطفك. أغلقتُ الصنبور كي لا تسمع صوت الماء، أريد أن أحافظ على استرخائي فلو أجبتها لن تكتفي وتخرج، بل ستسألني عن كل شاردة وواردة، وكأنني في مشهد يوم عظيم، «أين ذهبت أمك، ومتى خرجت؟ وأين أبوك، وإخوتك، ألم تزركم أخواتك اليوم؟ هل ستجتمعون ليلة الجمعة أم لا؟ متى زواج ابن خالتك؟ وأين سيكون زواجه...» سيتوجب عليّ سرد تقرير مفصل وشامل كي تقنع وتغادر. إنها تقترب فتحتْ باب المطبخ لتتأكد أكثر من عدم وجودنا مكملة بامتعاض: «حتى الخادمة مو موجودة!؟»، يا رباه هل أقفلتُ باب الحمّام، لا أدري.. لماذا يخيّل إليّ أنني لم أدر المفتاح، وقفتُ ببطء وخرجتُ من (البانيو) أشعر بخطواتها تقترب، الأرض رطبة لا يمكنني التحرك سريعا، لم تمهلني للتأكد من إغلاق الباب، فتحتْه بقوة، شاهدتني عارية تماما ولم تتراجع، صعقتُ والتصقتُ بحوض الغسيل محاولة ستر ما يمكنني ستره، وهي بقيتْ واقفة تحملق فيّ «هذا إنتِ موجودة وما تردين؟!».