التفجيرات والهجمات الأخيرة التي تبناها تنظيم داعش في بيروتوباريس، تشير إلى حجم الخطر الذي بات يشكله هذا التنظيم وأشباهه على جبهات مختلفة. الهجمات في باريس بالذات، كانت مفاجأة وذات أثر قوي، فالعبث في باريس بهذا الشكل، وتنفيذ هجمات مختلفة في أماكن متعددة في اليوم ذاته ليس أمرا بسيطا. لكن، بغض النظر عن ردة الفعل الفرنسية والأوروبية المتوقعة على تفجير كهذا، برزت بعض ردود الأفعال المرحبة بتفجير بيروت، وأقل منها في تفجير باريس، وهو أمرٌ وإن كان محدوداً بمجموعة من الموتورين وفاقدي الاتزان، إلا أنه يطرح قضية مهمة حول قدرة «داعش» على الاستفادة من خطاب محتقنين من أمثال هؤلاء، في جلب المزيد من الأنصار والمجندين لخدمة أهدافها السياسية. لا بد من التذكير بأن تنظيم داعش ظهر إلى النور في نسخته الأولى (وقد مرّ بعدة مراحل وصولاً للمرحلة الحالية)، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حين جاء الأمريكيون ودمروا مؤسسات الدولة العراقية، وبالذات مؤسسة الجيش، وركَّبَ بول بريمر نظام المحاصصة الطائفية بين أحزابٍ تمثل الطوائف، فانهارت الوطنية العراقية، وظهرت على السطح الميليشيات المسلحة بأنواعها، في غياب دولة قوية تتمتع بالشرعية الوطنية، وتعبر عن كل العراقيين. تنظيم داعش ظهر ضمن هذه الظروف، وأبو مصعب الزرقاوي (الأب الروحي لتنظيم داعش الحالي) ركز غالب جهده على إحداث فتنة طائفية في العراق، والتحريض الطائفي واحد من أهم أدوات تنظيم داعش في التعبئة والتحشيد والتجنيد. في هذه الحالة، كل خطاب يروج للفتنة الطائفية، ويفهم الصراعات السياسية في المنطقة على أساس التقسيم الطائفي، ويرى نزاعاً بين كتلة عابرة للحدود لها لون مذهبي معين، وكتلة أخرى تعبر عن لون مذهبي آخر؛ هو منغمس في إفادة داعش؛ لأنه يتبنى روايتها الطائفية للصراع، ويسمم الأجواء بما يجعل تنظيم داعش يتمدد أكثر داخل بيئاتنا الاجتماعية، فالتنظيم يستفيد من الانقسامات الاجتماعية في إحداث حالة فوضى، يمكنه من خلالها التمدد وتعزيز حضوره وتحقيق أغراضه السياسية. لذلك، لابد من التنبه إلى دور الخطاب والممارسات الطائفية في تهيئة البيئة الملائمة لتمدد داعش. يزيد على ذلك من يؤيدون ممارسات داعش، بشكل مباشر أو غير مباشر، في بلدان معينة، وبالذات في بلدان الهلال الخصيب، ثم ينكرون أفعالها عندنا، فهؤلاء يمكن أن نسميهم "داعش قليل الدسم"، إذ إنهم يستخدمون أدوات التعبئة والتحريض السياسي نفسها التي يستخدمها تنظيم داعش، لكنهم لا يلجأون للقتل مباشرة، وتجد بعضهم يحتفي بأفعال داعش في بعض الأماكن. خطاب هؤلاء ليس هو بالطبع السبب الوحيد والنهائي في بروز داعش، ولا يمكن اختزال ظاهرة كهذه بخطاب ديني هنا أو هناك، لكن إذا تكلمنا عن البيئة الخصبة لنمو داعش وأشباهه، فلا بد لنا أن نتحدث بوضوح عن أثر الخطاب الطائفي في تعبئة الناس بالأحقاد، لدرجة الفرح بقتل مدنيين أبرياء، وهذه أجواء تلائم داعش بالتأكيد.