التنظير شيء والتطبيق والظروف المحيطة به شيء آخر. قد يقول بول آردن مؤلف كتاب "كيفما فكَّرتَ.. فكّرْ العكس": "إن الظروف عذر العاجز، ومبرر الخائب". ومع وجاهة ما يقوله السيد آردن إلا أنه ليس قاعدة مؤكدة. لكن المؤكد أن آردن شخص عبقري، وأنه أسطورة في عالم الإعلان، وأن كتابه قد حقق نسبة مبيعات عالية جدا. في حوزتي نسخة من كتابه بلغته الأم، وأخرى ترجمة رشا الأطرش. وهو كتاب صغير الحجم يُقرأ في مدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة. يقرأه حتى القارئ الهش الملول، وهذا أحد أسرار انتشاره الواسع. مرة أخرى أعود إلى الكتابة عن بول آردن، لأن آراءه مثيرة للاهتمام وتغري بالكتابة. يقترح آردن على قارئ كتابه أن يسير نحو المجهول، وفي الاتجاه المعاكس. وأن يركب صهوة المجازفة والتهور. وأن يمسك الثور من قرنيه. ووفقا لما يراه آردن فإن الشخص لا يتميز عن غيره بالقرارات العقلانية؛ لأن الغالبية تتخذ قرارات عقلانية غير متهورة. ما يميز شخصاً عن آخر هو قراراته المختلفة أو "الخاطئة". سأقتبس بعض مقولات آردن دون التعليق عليها، فهو يقول: "فلنبدأ بالخطوة الأولى على الطريق الصحيح ولنتخذ قرارات خاطئة". ويقول: "لا تطل البقاء في وظيفة".. ومن أقواله: "ماما .. لقد سقطت في الامتحان.. كارثة.. بل هو إنجاز"! ويذهب آردن إلى أبعد من ذلك فيدعو قارئه إلى الذهاب إلى العمل بدلا من الجامعة ويتساءل: "هل لاحظت أن الطلبة اللامعين في المدرسة لم يكونوا الأشخاص الناجحين في الحياة"؟ تذكرني نصيحة آردن هذه بملاحظة زميل قال لي يوما: "لقد تغربتَ ودرستَ، وحصلتَ على شهادات عليا، وها هي نظارتك تزداد سماكة سنة بعد أخرى، والفرق بيني وبينك مرتبة واحدة"! وكانت ملاحظة في محلها. لكن العيب ليس في التعليم ولا في الجامعة، ولا النظارة السميكة، وإنما في البيروقراطية أو الأنظمة الغريبة والمفارقات العجيبة. كان آردن مُقنعا وهو يستعرض أفكاره، والسؤال الذي يمكن طرحه بعد الفراغ من القراءة: هل كان المؤلف، ذو الأسلوب الممتع المقنع، مقتنعا بكل ما طرحه من اقتراحات"؟ هذا السؤال أغراني بالإطلاع على سيرته الذاتية رغبة مني في رصد القرارات "الخاطئة" أو "المجازفة" أو "المتهورة" التي اتخذها ليحقق هذا النجاح. لم أعثر في سيرته الذاتية على قرار متهور. وجدت أنه موهوب ومبدع واستغل قدراته بعقلانية لتحقيق ذلك التفوق. وإذا لم أكن مخطئا فإنه لا صلة للنجاح الذي حققه آردن في حياته العملية بالآراء "المتهورة" التي طرحها في كتابه. مع ذلك فإن مقترحاته وصفة مفيدة لصاحب العقلية التقليدية، الذي لا يريد أن يتحرك قيد أنملة خارج إطار العادي والمتداول والمألوف. يمكن القول، كذلك، إن تخصص بول آردن في فن الإعلان يجعله أقرب إلى روح الشاعر والفنان، وبمثل هذه الروح استطاع أن يتجاوز الأساليب التقليدية في حياته العملية. لذلك فإن ما يطرحه يصلح بوصلة لمحترفي الكتابة والفن. ففيه دعوة للخروج عن المألوف والمتداول وتجاوز الأساليب التقليدية السائدة، التي أكل عليها الدهر وشرب ونام. وهو مفيد لنا، كي لا نذعن لأولئك الذين يصرون أن يفكروا نيابة عنا. وهو نافع للأب والأم اللذين يريدان أن يكون أبناؤهما نسخا كربونية منهما، فيكرران النصائح نفسها التي حفظوها عن الآباء الذين ورثوها من الأجداد. * متخصص في الإدارة الدولية المقارنة