طلب مني الصديق عبدالله الوشمي كي أعقب على بحوث «ملتقى النقد» فحاولت الاعتذار والسبب أنني لم أعد أجد مبرراً لحضور فعاليات تتكاثر وتقل بركتها، ولأن المدة الزمنية قصيرة جداً ولا تكاد تكفي للتعقيب على بحث واحد فما بالك بثلاثة! وحينما ألح قبلت رداً لبعض جميله. وحينما أرسل البحوث الثلاثة وقرأتها أيقنت أنني في حرج من نوع آخر. فالقراءة مريحة، لكنها نادراً ما تقدح سؤالاً في الذهن وتولد متعة في النفس. ذلك لأن المقاربات جاءت مألوفة حد أن قراءة أولى تكفي لتبين غلبة مظاهر الضعف على جوانب القوة في كل عمل. نعم لقد بدا لي أن هذه البحوث ليست بحوثاً بالمعنى الجدي للمفهوم إذ نستعمله في سياق ما يعرف بنقد النقد. هذه إذاً هي المفارقة العامة التي سأتخذها سبيلاً لكشف المفارقات الخاصة بكل مقاربة، وليعذرني الزملاء على صرامة يقتضيها المقام وأرجو ألا تنال من علاقات الصداقة في ما بيننا. قدم لنا سحمي الهاجري ورقة عمل تطل المفارقة من عنوانها الذي يعد بالكثير ويخلف الوعد من جهتين. فالمتن المدروس رسالة أكاديمية عن شرعنا الحديث أنجزت عام 1973، ونشرت كتاباً عام 1977 (أول رسالة أكاديمية عن الشعر السعودي كما أشار إليه الباحث). والعودة إلى متن معرفي قرئ وكتب عنه كثيراً من قبل لم تضف جديداً إلى جهود الآخرين. ومما يعمق دلالة المفارقة أن باب الإضافة كان قريباً من الباحث كل القرب. فلو اتخذ من النموذج منطلقاً للحوار مع رسائل علمية أنجزت في مراحل تالية لكشف لنا عن مدى تحولات الخطاب النقدي من جيل لآخر، وأفادنا بما يمكن أن ينتج عن اختلاف المقاربات من منهج نقدي لمنهج آخر. ومما زاد الطين بلة وحول الخلل إلى علة أن الباحث لم يباشر في ورقته القصيرة حواراً جاداً حتى مع النقاد السابقين ليعمق النظر في القضايا، بل ظل يعرض ما قاله شكري عياد وأحمد زكي وعبدالله المعطاني ومحمد الخطراوي والسبيل ويعلق عليها عبوراً. وهذا ما جعل الجهد يتمخض عن نتيجة هيّنة نقرأها في الفقرة الأخيرة وسواء أكان القصور يعود إلى كون الباحث معني بالسرد أكثر من الشعر أم أن الوقت داهمه فلم يتح له فرصة لإنجاز بحثه بالصورة المتوقعة من ناقد جاد مثله فإن الوعد لا يزال قائماً يغرينا بالانتظار، وبصيغة أوضح أقول اننا أمام ورقة عمل تتمثل أهميتها في كونها تفتح الباب على موضوع غاية في الأهمية يستحق أطروحة دكتوراه، وربما أكثر، ليتم تقصيه كما ينبغي. حمد السويلم اختار موضوعاً أثيراً على القلب والذهن لأنني أدرس علم الجمال منذ عقدين. وبناء على هذه التجربة، التي غذاها طلاب الدراسات العليا بانتظام، أذكر بما يشبه البدهية التي كررتها بصيغ متنوعة في مقامات مختلفة: «من لا يقرأ الفكر الفلسفي بجدية واحترام ويتفاعل مع الفنون كلها بمحبة ومتعة لا يمكن أن يذهب بعيداً لا في علم الجمال ولا في النقد الأدبي المتفرغ عنه». وأذكر بهذه البدهية لأنها تبرز المفارقة التي بدت لي قوية في خطاب الناقد وفي خطاب المنقود، فلا حمد أن يشيد بعصامية أبي عبدالرحمن وبموسوعية معارفه، وبدرايته المتعمقة بالتراث.. كما يشاء لأن هذا من حقه وصاحبنا يستحق. أما بشأن القول بتمكنه من علوم الفلسفة والنظريات الجمالية، أو بخصوصية منهجه النقدي كما يكتب مصادره أولية في مستهل البحث فالأمر موضع تساؤل واختلاف بل وخلاف. لماذا؟ لأن كتابات أبي عبدالرحمن عن الأدب والنظريات النقدية معروفة متداولة منذ قرابة نصف قرن، ومن يقرأها بتمعن سيلاحظ أنها تدل بذاتها على أن صاحبها لم يكن ناقداً محترفاً قط، فضلاً عن أن يكون ناقداً جمالياً له منهج خاص مميز! نعم إنه قارئ جاد ذكي جريء لكنه يظل دارساً تقليدياً يستثمر ذخيرة وافرة متنافرة من علوم اللغة والبلاغة، ومن النقد قديمه وحديثه، ومن علوم الشريعة، لكي يشرح ويعلق ويفسر ثم يطلق الأحكام القاطعة على النص وعلى الشخص. ونظراً لغلبة خطاب الفقه التقليدي عليه فكثيراً ما يغيب صوت الناقد ويبرز صوت الشيخ المحافظ الذي يظل يراوح في مجمل نظراته وأحكامه بين ما هو معرفي أو فني أو أدبي وما هو ديني أو أخلاقي أو أيديولوجي. ولعل ضغوط الخطاب الفقهي المحافظ المتشدد عليه وعلى أمثاله هو ما يفسر شيوع تلك التعبيرات الوثوقية التي تحضر في كل كتاباته الأدبية السجالية وتعلن في الخطاب مرة بنبرة خفيفة ودية مرحة موجهة إلى صديق أو صاحب مكانة عالية، ومرات أخرى بنبرة قوية متجهمة عنيفة، لأنها موجهة إلى خصم أو من يظن أنه في حكم الخصم. وباختصار أقول إن دراية الباحث الفاضل بالفكر الجمالي والنقد الجمالي محدودة، ولذا خدع ببعض النوانات، فراح يبحث عن شيء غير موجود في خطاب المبحوث إلا في ظاهر الكلام وسطح الكتابة. ولو تملك دراية كافية بشروط النقد الجمالي والفكر الفلسفي الذي يثوي وراءه لتمكن من كشف المفارقة الجلية في كتابات أبي عبدالرحمن عن الشعر وعن الأدب والفن عموماً. فهو لا يكتب عن شيء من هذا إلا ليخضع، وبشكل متسق، الحكم الجمالي للذوق الشخصي غير المدرب تارة، وللموقف الأخلاقي المحافظ تارة، وللموقف الأيديولوجي المتمذهب تارة ثالثة. والنتيجة المتوقعة سلفاً أن الذات تظل تراوح مكانها وتربي خطاباً يشل طاقاتها، فلا تحرر مسألة تطرحها، وكيف تحررها والقيود تضغط عليها وتحد من حريتها كلما تقدمت خطوة إلى الأمام أو رفعت رأسها إلى الأعلى. مفارقة البحث الثالث تتصل بالإشكال العام الذي حدده العروي وحلله في كتابات كثيرة متنوعة بقدر كبير من الرهافة والعمق. فالدكتور عماد حسيب يبدو أكثر مكراً ومراوغة إذ يتوارى خلف خطاب معرفي دنيوي بشري له الكثير من سمات الحداثة، غير واع إلى أن لغته ستكشف اللعبة (تكلم أو اكتب أراك واكتب حتى أعرفك). فالعنوان الجذاب يعلن أن طرح القضية التي يعرفها ويعترف بها كثيرون، سيتم من منظور حواري، والعبارة المستعارة من الشاعر الهندي الذي عرف، ومنذ عهد بعيد، باسم «طاغور» وليس «تاغور»، موحية بسعة اطلاع وسعة أفق تعزز تلك الروح الحوارية. لكن الفقرة الأولى من البحث تكشف أن الأمر يتعلق بلعبة لا يحسنها صاحبها، لأنها بدأت مفعمة بالنبرة السجالية من جهة والوثوقية من جهة أخرى. فهو يستعيد قضية معرفية مألوفة ترقى إلى رتبة الإشكالات الحضارية الكبرى عندنا وعند غيرنا، لكن الذهنيات السجالية حولتها إلى قضية أيديولوجية ساذجة وخطرة في الوقت نفسه. لقد كتب كثيرون عن هجرة النظريات والأفكار وما يصاحبها ويتولد عنها من مكاسب وخسارات في السياقات الثقافية التي تستقبلها وتحاول استثمارها. والنقد العربي الذي يتفاعل بصيغ شتى مع النظريات النقدية الحديثة، وما أكثرها وأكثر تحولاتها، ليس سوى جزئية من خطاب ثقافي عام يعيش هذه الوضعية ويعني تبعاتها. وبصيغة أخرى نقول إن الباحثين العرب في مجالات اللغة والأدب والاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والإناسة.. إلخ، وضعهم منطق التاريخ ومنطق التقنية في صلب هذا الإشكال الحضاري الأكبر ولا جدوى من إنكاره. لكن اختزال القضايا في المقولات المبسطة والمواقف المسبقة هو علامة السذاجة ومصدر الخطر. والسبب معروف فمن يدعي معرفة المخرج الأمثل وامتلاك الحل الأفضل يجهل أن قضايا كبرى من هذا النوع تتولد في سياق تاريخ طويل ولا يمكن أن تتخلخل وتتحول إلا بفضل جهود خلاقة متصلة تتراكم خلال فترة زمنية تطول وتقصر بحسب شروط أخرى. لقد بدت ملاحظات الناقد على مقاربة كاميليا عبدالفتاح وجيهة مقنعة لتكافؤ ثقافتيهما، وربما لأن تلك الناقدة تفتقد هي أيضاً إلى رقابة الوعي. لكن ما قاله عن محمد مندور وعبدالله الغذامي واحمد درويش ومحمد الصفراني غير وجيه وغير مقنع لأنه لم يحاور جهودهم ضمن سياقاتها المتنوعة، ووفق شروطها المعرفية والمنهاجية المختلفة كل الاختلاف، ولو استعرت من هذه الورقة بعض التعبيرات غير النقدية وغير المعرفية لقلت إن الناقد توهم وصدق أنه «سوبرمان النقد»، وفي الختام أرجو أن يكون في ما قلت فائدة تخفف من حدته وصرامته، وإلا فإنني أعتذر للجميع... وأعدكم بعدم المشاركة تالياً.