كنت أنتظر الإذن لمقابلة الملحق الثقافي في السفارة العراقية في الرياض عبداللطيف السعدون، الذي أتابع مقالاته في صحيفة الشرق الأوسط، كان ذلك ربيع العام 1987م، ووقتها كنت طالباً أزاحم الدراسة بممارسة الصحافة كهواية ملحة في هذه الجريدة "اليوم" العريقة، ففاجأتني الدعوة الرسمية لزيارة بغداد؛ لحضور احتفالات المدينة بتاريخ تأسيسها في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور، وكانت زيارة السفارة لإنهاء إجراءات السفر، حيث كان السعدون لطيفاً كاسمه، يُثمن للسعوديين عموماً وقفتهم مع بلاده إبان حرب القادسية، كما أُسميت، تلك الحرب التي أفضت لتغيرات جوهرية في تركيبة المنطقة، خصوصاً بعد احتلال الكويت وحرب التحالف لتحريرها، وهي نفس الفترة التي أغلقت فيها السفارة السعودية في بغداد، والجاري العمل الآن على معاودة افتتاحها في تقدير من حكومة المملكة؛ لأهمية التواصل مع العراق بعد التحولات الكبرى في قيادته وسياسته، وهي أيضاً محاولة لاحتواء ما يمكن من عروبة البلد العريق بتاريخه وحضارته وظروفه الراهنة والمقلقة لكل المنطقة، بعد أن غدت أرضه نهباً للحركات الانتهازية التي تستهدف الأمة عموماً. حيث لم يعد العراق يصدر الثقافة والتاريخ للعرب ولكل العالم، بل غدا بؤرة تصدر القلق والإرهاب، مثلما حملت لنا أخبار صباح الاثنين الماضي من تسلل تلك المجموعة الإرهابية التي استهدفت مركز سويف الحدودي مع العراق، وقتلت -غيلة وغدراً- قائد حرس الحدود ورفاقه في استهداف أحمق يبرز النوايا الخبيثة تجاه المملكة وأمنها، فالعراق بظروفه وساحته المفتوحة للشراذم الانتهازية المتطرفة، يحتاج صياغة جوهرية في سياسته وبناء مكوناته وعلاقاته مع دول الجوار تحديداً، بما يحقق القضاء على مثل تلك القوى العدوانية التي استغلت حالة الفضاء الأمني والتغليب الطائفي والانشغال السياسي بعيداً عما يجب أن يكون عليه العراق، ضمن حياض أمته ومحيطه، لا مجرد الارتهان والتبعية لطرف يكرس انسلاخ العراق نحوه دون حساب لتاريخ العراق ومكونه؛ وتلك مهمة الحكومة العراقية الحالية التي تمد لها الحكومة السعودية يد العمل والتعاون، ممثلاً في إعادة فتح السفارة؛ لتحقيق تعاون جوهري يخدم البلدين وعموم الأمة. فربما استفز هذا الخبر قوى الغدر، فدفعت بشراذمها صوب الحدود هنا؛ لتعرقل مسيرة التعاون، وتشكك في مصداقيته. فالمملكة كانت مبادرة في تأمين حدودها مبكراً؛ منعاً للتسلل حفاظا على أمنها وأمن العراق، وهو ما يجب أن يقابل بإجراء مماثل من العراق؛ لضبط حدوده. فقد تكرر الاستهداف وتنوعت مصادره، حيث نتذكر تصاريح واثق البطاط وصواريخ جماعته الإرهابية التي استهدفت شمال المملكة، وهو ما يُحرج الحكومة العراقية، ويقلل من مصداقيتها معنا في وقت يحتاج الجميع للتلاحم والعمل معاً. فالمملكة لم تضمر للعراق وشعبه سوى الخير والتعاون لتحقيق المكانة التاريخية لهذا البلد، الذي يمثل الروح لتاريخ الأمة ومستقبلها؛ لذلك نتمنى أن يمضي فتح السفارة هناك لتحقيق التعاون المطلوب، وليكون العراق دائماً كما عهدناه رئة للثقافة وحبر مدادها المستمد من تاريخ المنصور، حين وضع اللبنات الأولى للعاصمة بغداد كمدينة للسلام؛ فهكذا كان عبداللطيف السعدون يبسط لي عند زيارته في الرياض حكاية تاريخ بغداد، بينما يعيش الآن أيام المنفى بعيداً في فنزويلا، يتابع ويكتب بألم عن مدينة السلام. * كاتب وإعلامي سعودي