منذ أن قمت بزيارتي للسجن العمومي بمحافظة الخبر، خلال أيام خلت، ظلت تعلق بذهني مسألة السجون كمؤسسة اصلاحية تهدف في المقام الأول إلى تأهيل النزلاء وعلاج مشاكلهم من أجل أن ينتهي بهم المطاف أخيراً للانخراط في المجتمع كأفراد صالحين فيه. وفي فذلكة تاريخية ان فكرة السجن كمؤسسة إصلاحية علاجية تأهيلية اكتملت صورتها في الفكر القانوني الإنساني المعاصر بعد مخاضٍ عسير، ولقد كانت قد طبقت خلال حكم الدولة الإسلامية إبان مجدها الزاهر وكثيراً ما نجد الفكر الإسلامي قد سبق الآخرين من أهل الفكر الحديث في مثل هذه الأهداف السامية بسنين طوال قبل أن تجيء فكرة السجن الإصلاحي في الفكر القانوني الإنساني اليوم. ونظرية السجن الإصلاحي لم تتضح معالمها إلا بعد أن تطورت الأهداف المراد تحقيقها باستحداث السجن بحد ذاته ابتداءً منذ العصور القديمة وانتهاءً بالعصور الحديثة، حيث تمثل هدف السجن في العصور القديمة في العقوبة ذاتها بمعنى الانتقام من الجاني وذلك بتعذيبه وايقاع الأذى عليه بما كان يوقعه على الآخرين جزاءً له على سوء فعله، دون النظر للجانب الإنساني من ناحية ومن ناحية اخرى دون النظر لأي من الأسباب المستقلة عن الجاني التي دفعت به إلى فعل الجريمة التي كثيراً ما يكون للمجتمع دور فيها، وفوق هذا وذاك لم يكن هناك اهتمام بمستقبل السجين بعد خروجه من السجن، لذا كانت تكثر حالة العود للكثيرين ممن دخلوا السجن عندما يخرجون منه دون تأهيل حيث تنتظرهم نظرات الاستهجان والاستحقار من المجتمع ما يجعلهم غير قادرين على الاندماج فيه، فيكون عندهم الحال أسهل عندما كانوا في السجن فلا يتورعون عن ارتكاب أعمال مجرّمة تعود بهم إلى السجن مرة اخرى فيصبحون من مرتادي السجون. ولقد كان هدف السجن في تلك الحقب -العصور الوسطى- يتفق مع مقاصد الكنيسة حول العقوبة آنذاك، حيث يتمثل المقصد في فكرة تطهير المجرم من الذنوب والخطايا من خلال الاقتصاص التطهيري منه، لذلك كانت عقوبة السجن تستهدف الانتقام والإرهاب لغرض تطهير المجرم وبذلك كان هدف العقوبة آنذاك هو الردع فقط دون التطرق لجانب الإصلاح، لذا كانت السجون تقام في قلاع أو حصون قديمة يودع فيها المجرمون في سراديب مظلمة مكبلين بالقيود مع التعذيب وإجبارهم على القيام بأعمال السخرة في صورة فيها الكثير من اهانة النفس البشرية. أما هدف السجون في العصر الحديث والمعاصر، فقد تطورت العقوبة المستصحبة للانتقام والاقتصاص إلى الإصلاح والتأهيل من خلال تغيير النظرة إلى الجاني في ذاته بصفة شخصية بوصفه فردا خارجا عن القيم وغير منضبط أخلاقياً واجتماعياً وانه في حاجة إلى المساعدة واصلاح حاله، لذا بدأت تتغير النظرة إلى السجن والسجين وبدأ التحسن يظهر عليهما عموماً وذلك نتيجة لجهود المفكرين ورجال الدين منذ نهاية القرن الثامن عشر مروراً بالقرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين فاتجهت السياسة العقابية الحديثة إلى تصنيف السجون والمساجين بما يمكن الجهات ذات الصلة القيام برعاية المسجونين من النواحي الطبية والنفسية والفكرية والجسدية والاجتماعية أيضاً بمساعدة متخصصين في مختلف هذه المجالات، وقد اعتنى المجتمع الدولي بهذا التطور فوضع التوصيات والقرارات اللازمة في سبيل تطبيق مبادئ الاصلاح والتطوير من خلال مقررات المؤتمر الدولي الأول للسجون في لندن سنة 1872 والمؤتمر الدولي الثاني في استكهولم سنة 1878 وغيرها من المؤتمرات التي كانت بمثابة الفتح الجديد إلى أن اعتمدت عصبة الأممالمتحدة آنذاك قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحقاً في مؤتمر مكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين في جنيف وذلك عام 1955 والتي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة بقراره رقم 663 في 31/7/ 1957م. ومنذ ذلك التاريخ صارت تتطور نظم ولوائح السجون باعتبارها مؤسسات تأهيلية من أجل اصلاح السجين وتهذيبه بما يمكنه من الانخراط في المجتمع كإنسان صالح.