يدرك مختصون في الشأن الاجتماعي والعدلي، أن عقوبة الحبس في الجرائم البسيطة لها تأثير سلبي على المتهم، وقد يحول السجين العادي إلى مجرم بسبب دخوله السجن وملازمته للمجرمين, ويرون أهمية استبدال بعض العقوبات التعزيرية المجرمة بالسجن إلى عقوبات بديلة مثل إلزام المتهم بتقديم خدمات للمجتمع أو منعه من بعض الأمور الحياتية, ويؤكدون على أن تأصيل العقوبات البديلة ممكن شرعا وفي المقابل يرى البعض أن السجن يجب أن يظل عقوبة لردع الجناة. وأبدى مختصون وعدليون قلقهم حيال نجاح فكرة الأحكام البديلة وقالوا إنها ستظل متعثرة طالما لا توجد ضمانات لتنفيذها بما يحقق العقوبة, وقالوا في حالة صدور النظام فإنه لا توجد ضمانات واضحة لمراقبة تنفيذ الأحكام البديلة والاطمئنان إلى تنفيذها، فضلا عن عدم وجود آلية أو جهة تتولى مراقبة تنفيذ تلك الأحكام، فيما تطالب وزارة الشؤون الاجتماعية بالإعداد والتنسيق لإعادة النظر في أوضاع دور الملاحظة والتخفيف من أحكام السجن في الحق العام, على أن تظل الحقوق الخاصة قائمة ومصانة شرعا، وأجمعوا على أن تكون بداية التطبيق بداية على الأحداث في دور الملاحظة ومن ثم تقييم التجربة. وتتنوع قضايا الأحداث في دور الملاحظة الاجتماعية ما بين قتل وسرقة ونشل وقضايا أخلاقية وحوادث مرورية ودهس ومضاربات، وتحتل قضايا الأخلاقيات والمضاربات المرتبة الأولى, ويعود نحو 60% من الأحداث للسجن مرة أخرى في جرائم لاحقة, ولا يوجد رقم يعكس حجم الإنفاق الذي يكلف وزارة الشؤون الاجتماعية على الفرد الواحد في الشهر الواحد، الذي يشمل السكن والإعاشة والتعليم والخدمات الصحية والاجتماعية والنفسية والحراسات والمأكل والمشرب والكسوة الخ، فيما تتنوع قضايا الفتيات اللاتي يتم ايداعهن في مؤسسات رعاية الفتيات وفق أحكام قضائية في جرائم عدة، مثل الهروب من المنزل والخلوة وحمل السفاح وجرائم الاعتداء على النفس وترويج المخدرات والقتل. فضلا عن قضايا حقوقية عديدة من ديون وإيجارات وأقساط. وهنا أوضح أستاذ علم الاجتماع والجريمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز اليوسف في بحث علمي، علاقة علم الاجتماع بتطبيق العقوبات البديلة، حيث بين العلاقة التكاملية بين علم الاجتماع وتطبيق العقوبات البديلة باعتبار أن الإصلاح والسجون أحد أبرز مجالات علم الاجتماع الجنائي. وقال: لا شك أن التطور التاريخي للمجرم والتحول من رؤيته كشخص مخالف للنظام يستحق أشد أنواع العقوبات إلى شخص مناهض للمجتمع أدى إلى النظرة للخارج عن القانون كشخص غير قادر على التكيف الاجتماعي ويحتاج من المجتمع إلى النهوض به وإدماجه في المجتمع، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، فعقوبة السجن أثبتت فشلها في إصلاح الجاني ومساعدته على الانخراط في المجتمع، حيث يؤدي السجن إلى عزل المجرم عن أسرته وعن المجتمع مما يولد لديه الحقد والكراهية على المجتمع. بدوره، قال رئيس قسم العدالة الجنائية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية الدكتور محمد عبدالله ولد محمد الشنقيطي، أن بدائل العقوبة تعني اتخاذ عقوبات غير سجنية ضد المذنبين أو استخدام عقوبات غير سجنية بدلا من العقوبات البديلة السجنية. والملاحظ أن التعريف الثاني يخرج العقوبات المقيدة للحرية عموما من مفهوم الإجراءات البديلة عن الحبس وأن التعريف الأول يحصر البدائل في عقوبة المذنبين, ولكي تشمل الإجراءات البديلة عن الحبس ما هو عقوبة وما ليس بعقوبة، فالأولى أن تعرف بأنها: (اتخاذ وسائل وعقوبات غير سجنية بدلا من استعمال السجن سواء كانت تلك الإجراءات المتخذة قبل المحاكمة أو أثناءها أو بعدها). وتابع: بالنظر إلى موقف القضاء في الإسلام من العقوبات في الجملة نجد أنه لا يهدف إلى إيقاع العقوبات بالفرد أساسا، بل إنه يضع سياجا منيعا دون إيقاع أي عقوبة وذلك بوضع الشروط الدقيقة لثبوت موجبات العقوبة من جهة, ووضع الشروط الدقيقة أيضا لتنفيذها بعد ثبوتها من جهة أخرى, ويتضح اتجاه القضاء في الإسلام إلى هذا المنحى من خلال تقرير قاعدة (درء الحدود بالشبهات), والأخذ بقاعدة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، المؤيدة بالقاعدة الشرعية الأخرى التي تقول إن (الأصل في الأشياء الإباحة). وأضاف: هناك أسباب دفعت الدول العربية إلى الاهتمام بالعقوبات البديلة: أ- تجنب الآثار السلبية لدخول السجن: فقد أجمعت الدول العربية على هذا السبب وأصبح اللجوء إلى نظام البدائل يعكس اقتناع سياساتها الجنائية بوجود آثار سلبية، وأيضا المساعدة على تلبية احتياجات المذنب والأسرة والمجتمع وفي هذا إشارة إلى نظرية تفريد العقوبة، أي ضرورة مراعاة ظروف الجاني الشخصية والأسرية، تجنب إبعاد المذنب عن المجتمع، استخدام البدائل لا يؤدي إلى زيادة في الجريمة، حيث تؤكد معظم البحوث والدراسات التي أجريت في أمريكا وأوربا والتي قطعت أشواطا لا بأس بها في هذا المجال أن استخدام البدائل لم يؤد إلى أية زيادة في معدل الجريمة، إلا أن حداثة استخدام البدائل في الدول العربية قد لا يسمح لها بالوصول إلى مثل هذه النتائج الآن. ج- التخفيض من عدد النزلاء بالسجون, يتضمن هذا السبب فائدتين الأولى عدم اللجوء إلى السجن إلا عند الضرورة القصوى والاستعاضة عنه بالبدائل، والثانية أن التخفيض من عدد النزلاء يمكن من توفير برامج إصلاحية لإفادتهم. ح- الأسباب الاقتصادية: استخدام البدائل سيسهم في حل المشكل الاقتصادي الذي يعاني منه كثير من الدول العربية، حيث سيمكن من التخفيف من الأعباء المالية المترتبة على زيادة أعداد النزلاء بالسجون وبناء السجون وصيانتها. وأوضح أن بدائل العقوبات ذات الطابع المادي منها الغرامة المالية والمصادرة والإتلاف، ومن البدائل ذات الطابع المعنوي (النفسي) النصح، التوبيخ، التهديد، الهجر والتشهير، فضلا عن البدائل المقيدة للحرية نظام الإفراج الشرطي، نظام شبه الحرية, الإدانة وتأجيل الحكم، المنع من السفر والإقامة الجبرية والنفي والتغريب. وظلت قضية الأحكام البديلة مثار جدل في المشهد القضائي وظهرت أحكام بديلة في عدد من المحاكم قبل سنوات، وأطلق زمام المبادرة آنذاك الشيخ محمد آل عبدالكريم قاضي محافظ المويه الذي اشتهر بإصدار أول الأحكام البديلة عن السجن قبل ان ينتقل الى الرياض ثم يغادر القضاء, وظل صدور تلك الأحكام على استحياء تصدر من حين لآخر لكنها لم تجد على ما يبدو المساندة التي تحميها كفكرة وتساهم في التوسع فيها. ووجدت العقوبات البديلة صدى إيجابيا في بدايتها وترحيبا وتفاعلا من المجتمع ومن عدة جهات بينها اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم وجمعية حقوق الإنسان والعديد من المسؤولين. وتنوعت الأحكام البديلة لتشمل تارة أحكاما بتنظيف عدد من المساجد الذي صدر بحق حدثين أدينا بالسرقة، كما صدرت أحكام مماثلة للعمل عدة ساعات في مكاتب للأوقاف وفي الجمعيات الخيرية, وأحكام أخرى بتعلم القراءة والكتابة فضلا عن حكم بمنع شخص من استخدام الصراف الآلي شهرا، وأن يقوم بفرش المسجد. من جهته، أوضح ل(عكاظ) مصدر عدلي استئنافي، أنه لا يتورع عن نقض حكم أي قاض قضى بحكم بديل كون الأحكام البديلة لم تعتمد بنظام رسمي، لافتا إلى أنه لا يكفي أن يكون انطباع المجتمع إيجابيا تجاه اجتهاد ما حتى يشرع، مشيرا إلى أن العرف معتبر شرعا كونه صادرا عن المجتمع بينما حكم القاضي لا بد أن يستند إلى نص شرعي أو نظام ليكون محل قبول ومصادقة وتنفيذ. فيما أكد المحامي الشيخ محمد الجذلاني، أن التأصيل للعقوبات البديلة ممكن شرعا من حيث التكييف القانوني، وضرب أمثلة على ذلك ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وظف مهارة بعض الأسرى في تعليم المسلمين القراءة والكتابة وبعض الحرف والمهن وإطلاقهم من الأسر عوضا عن قتلهم أو إلزامهم بدفع الفدية، مشيرا إلى أن الأحكام البديلة ضرورة في هذا العصر ليس مراعاة للجانب الإنساني فقط، ولا احتراما للمنظمات والاتفاقيات الدولية فحسب. وقال، الهدف من العقوبة التعزيرية شرعا التأديب والاستصلاح، واصفا السجون اليوم بغير المؤهلة للإصلاح بحسب رأي مصلحين ومختصين ومراقبين لأنها تضم الصالح والطالح وتجمع البريء بالضليع في الإجرام ما يرجح جانب التأثير السلبي. وأضاف: الضوابط والتقنين شرطان لازمان لتطبيق العقوبات البديلة ما يحقق مصلحة من وقعت منه مخالفة لأول مرة ومصلحة الأحداث من صغار السن ومصلحة المغرر بهم ممن يقعون ضحايا لغيرهم، مؤكدا أن الشارع بالتعزير يريد تطهير مرتكب المعصية من الذنب وحين تصدر بحقه عقوبة بديلة يستشعر العقوبة دون شك ولكنه لا يتبرم ولا يخجل من تنفيذها كونها تدخل في سياق خدمة المجتمع المحمودة. وزاد: المبادرات بالعقوبة البديلة تظهر بين حين وآخر من بعض القضاة إلا أنها حالات فردية ولن تتحول إلى ظاهرة إلا بعد تقنينها بقرار شرعي من هيئة كبار العلماء أو المحكمة العليا أو وزارة العدل. ويسرد أحد المختصين في الشأن القضائي قصة حدثت قبل 15 عاما لشخص دخل السجن 30 مرة، ومثل أمام المحكمة في جريمة جديدة وتوقف القاضي قبل الحكم عليه بالسجن مدركا أن هذا المجرم لن يردعه السجن، فألزمه بالعمل في خدمة المجتمع مع مجموعة من الأشخاص وبعد شهرين ثبت إصلاحه وبدأت تتغير سلوكياته. إلى ذلك، أبدى عدد من الشباب المحكومين في مخالفات صغيرة لا تصل إلى المعصية الموجبة للحد استعدادهم بالاستجابة والقناعة لأحكام القضاة التعزيرية ومنها غسل سيارات الدوريات لمدة 15 يوما، وتنظيف المساجد، وحفظ عدد من أجزاء القرآن الكريم، مؤكدين ل(عكاظ) أن الحكم بالسجن على متهم ارتكب خطأ غير مقصود ولأول مرة مظنة انحراف كونه في السجن يلتقي بأصناف من البشر الموغلين في الجرائم بأنواعها، ما يؤثر على سلوك وأخلاق أي إنسان يتعامل معهم مهما بلغت درجة تحصينه، وناشدوا وزارة العدل التسريع في إصدار نظام مقنن للعقوبات البديلة كونه سيحد كثيرا من استمراء المخالفات وسيرفع من قيمة العمل الاجتماعي ويؤصل لمفهوم النفع العام.