تتسم هذه المرحلة بالخطرة وبالاستعجال أيضًا، ولأن السرعة المتهورة تؤدي إلى الأخطاء القاتلة، فإن سرعة التحولات الجارية تكشف الحقائق وتبدو واضحة للعيان، عندها يتحلل السياسي من الديني والعكس أيضًا، وفي مناطق أخرى، تجري عملية اندماج كلية وطنية وسياسية ودينية. لم يشهد الشرق الأوسط والمنطقة العربية حدة في الصراع الجاري وأدواته مثلما هو جارٍ اليوم، فثمة تداخل عجيب وتناقض غير متوقع، لكنها حالة فاصلة ستطوي مراحل سابقة، حاولت خداع الناس والشعوب بالخطابات الثورية التي ألهبت حماس العاطفيين منهم، لكنها حتمًا لم ولن تمر على العقلاء منهم. في هذه الفترة انكشف النظام السياسي الإيراني أمام مواطنيه أولًا، وأصبح الشارع الإيراني يعيش حالة من التناقض الكبير، والمهدد لوحدة الدولة واستمراريتها، فرغم القبضة الحديدية والبوليسية، إلا أن التناقضات الحادة أصبحت مشاهدة بشكل واضح على المسرح الدولي، ولكن تظل المعارضات الداخلية طامحة لنيل حقوقها، أو على الأقل المشاركة السياسية والحق في التنمية والخصوصية الثقافية كما هم العرب في الأحواز والبلوش في بلوشستان أو الأكراد. منذ الثورة الإيرانية عام 1979 كان تصدير الثورة واستعداء العالم الخارجي ودول الجوار الإقليمي جزءًا رئيسًا من مقومات الأمن الداخلي الإيراني؛فطهران تخاف مجتمعها والقوميات المشكلة منها إيران، ولهذا كانت تتعامل طهران بازدواجية وبمذهب التقيه السياسية مع الخارج، فهي تحاول احتواء الشيعة في كل مكان وممارسة الهيمنة والوصاية عليهم، وجعلهم تابعين لطهران، وإقناع بعضًا من رموزهم بأن ذلك يأتي في إطار محافظتها عليهم وفي إطار مهامها الإسلامية، وفي الوقت الذي كانت تشتم فيه الولاياتالمتحدة وتعدها الشيطان الأكبر تتهم طهران الدول العربية المشاركة بالجهد الدولي لمكافحة الإرهاب بأنها دول الإسلام الأمريكي كما جاء في الرسالة التي وجهها المرشد الإيراني علي خامئني لبعثة الحج الإيرانية، فيما اعتبر خامئني الإسلام المعادي لأمريكا بأنه الإسلام الحقيقي والمحمدي، في حين تناسى المرشد الأعلى أن رئيس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني قال في إحد تصريحاته بأن أمريكا مدينة لإيران، فلولا موافقة طهران ودعمها للجهد الأمريكي لما سقط نظام طالبان ونظام صدام حسين، وقتل أسامة بن لادن، حيث تؤكد المعلومات أن طهران هي من زود المخابرات الأمريكية بمعلومات دقيقة عن أسامة بن لادن لفتح خطوط اتصال مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الباحثة عن نصر. ولعل الأحداث الكاشفة هى أن حزب الله حزب المقاومة كما يدعي رفض توسلات حماس ورسائل موسى أبو مرزوق كي يهدد حزب الله بفتح جبهته أمام اسرائيل عقب العدوان الاسرائيلي على غزة. إلا أن حزب الله آثر الصمت هذه المرة، بعدما وجه سلاح المقاومة إلى صدور اللبنانيين والسوريين، وانزلق في لعبة وصراع طائفي كشف حقيقته للجمهور العربي، وأظهر اصطفافه الطائفي، وأبان مسخرة ما يسمى بالمقاومة وسلاح المقاومة الذي قتل من السوريين واللبنانيين أكثر من الاسرائيليين. ولم يتوقف الانكشاف الإيراني وانكشاف أدواتها في المنطقة والمنتجة للتطرف والإرهاب على دعم حزب الله ونظام الأسد والتمرد الحوثي وتنظيم داعش وتنظيم سرايا خرسان، بل تجاوز ذلك عندما خرج حسين أمير عبداللهيان نائب وزير الخارجية الإيراني ليؤكد أن سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد على يد داعش من شأنه أن يقضي على أمن «إسرائيل» جاء ذلك بتصريح أدلاه لوكالة فارس الإيرانية أضاف فيه إنه إذا أراد التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة ضد تنظيم الدولة تغيير النظام السوري، فإن أمن «إسرائيل» سينتهي. إن انكشاف السياسة الإيرانية في المنطقة أصبح واضحًا، فمثل هذه التصريحات لا تهدف إثارة حفيظة إسرائيل لتدعم إمكانية الإبقاء على نظام الأسد كما يعتقد البعض، وإنما جاءت هذه التصريحات جزءًا من منظومة التفكير الاستراتيجي الإيراني في المنطقة والتي تشترك مع تل أبيب في أحد أهم أضلاعها الحقيقية، ولهذا حذرت طهرانأنقرة من مغبة التدخل العسكري؛ لأن ذلك سيؤدي إلى إضعاف نظام الأسد وربما انهياره، كما أن التدخل الدولي بقيادة واشنطن التي تربطها وأنقرة علاقات استراتيجية مع تل أبيب أيضًا، وانطلاقا من هذه المخاوف والكواشف، فقد سربت إيران لعدة أطراف إقليمية أنها مع تقاسم السلطة في العراقوسوريا واليمن، ولهذا وضعت طهران في رسالتها ما أسمته إطارًا لحل الأزمة السورية، التي فقدت الوقت المناسب للحلول في مؤتمري جنيف الأول والثاني، حيث كانت تقف إيران بالضد من كافة الحلول السياسية، ولكن اليوم وبعد حدوث تحولات في المنطقة تحاول إيران جادة السعي للتقدم خطوات للأمام تضمن عدم سقوط الأسد، والمقترح الإيراني يتضمن وجود مرحلة انتقالية، ومجلس عسكري، وحكومة انتقالية تمتلك صلاحيات تنفيذية كاملة، ووضع اتفاق حل شامل قد يبقي على الأسد في الرئاسة السورية، أو تقسيم سوريا إلى أقاليم يصبح فيه الأسد رئيسًا للإقليم العلوي، أو يتنحى ويغادر الحكم وبضمانات دولية. المقترح الإيراني هذا والذي تقدمت به طهران سرًا، وهي تعتقد بأنها في ظل هذه الظروف قادرة على فرضه كحل وسط في المنطقة قوبل هذا المقترح برفض سعودي وتركي كبير وغير متوقع انطلاقًا من أن قضايا المنطقة العربية تحل داخلها، وأن على إيران ألا تتدخل في شؤون المنطقة، كما اعترضت أنقرةوتركيا على صيغة بقاء الأسد؛ فأنقرةوالرياض ما زالتا تعتبران الأسد جزءا من المشكلة وليس جزءًا من الحل، كما أن الدبلوماسية العربية ترغب في حرمان طهران اعترافًا بدور إقليمي، خاصة وأن طهران مشهود لها بعرقة الحلول والتسويات التي أبرمت في العراق ولبنان واليمن. كما أن المقترح الإيراني يخالف التوجهات الدولية وبخاصة الموقف الفرنسي والأمريكي الذي يرى بألا أمن ولا استقرار في سوريا بوجود الأسد على رأس السلطة في دمشق، كما أن ايران ليست مؤهلة لأن تكون شريكًا حقيقيًا في حل الأزمات الإقليمية طالما كانت جزءًا مولدًا لهذه الأزمات، وداعمًا للتطرف والإرهاب في المنطقة من خلال عمليات الشحن الطائفي، حيث ترى الرياض أن شحنات التطرف التي أيقظت الإرهاب في المنطقة كانت بسبب وقوف إيران خلف السياسات الطائفية لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وأيضًا خلف نظام الأسد بعد دعمه ماليًا وعسكريًا، وفرضت على حزب الله قتال السوريين إضافة إلى فرق الموت الطائفية في العراق ومقاتلة الحرس الثوري إلى جانب هذه التنظيمات بهدف إذكاء الصراعات داخل النسيج الوطني الواحد، وبما يخدم الأهداف الاستراتيجية والمستقبلية لإيران، ولهذا يؤكد نائب وزير الخارجية الإيرانية أن طهران لن تسمح بسقوط أحد حلفائها الحقيقيين في جبهة ما يسميه بالمقاومة. وعلى الرغم من الصراع التركي الإيراني على سوريا والمتدثر بغطاء عثماني فارسي، فإن كلا البلدين له مصالح متقاطعة في سوريا؛ فتنظيم داعش الذي بات يسيطر عمليًا على منطقة عين العرب السورية، والتي يقطنها عدد كبير من الأكراد، وفيها معسكرات حزب العمال الكردستاني، وخزينه الاستراتيجي من الأسلحة الخفيفة والثقيلة والتي أمده بها النظام السوري وأيضا الإيراني، حيث كانت طهران تدعم حزب العمال الكردستاني ليكون أداة ضغط على تركيا، ولهذا في ظل حالة الانكشاف السياسي تظهر الاختلافات ما بين تركياوإيران، حيث يؤكد نائب وزير الخارجية الإيراني عبداللهيان أن تركيا تسعى إلى ترسيخ وتعزيز فكرة «العثمانية الجديدة» في المنطقة، وأن طهران حذرتها والدول الأخرى من مغبة دخول الأراضي السورية، وقلنا لها: إن عواقب ذلك ستكون وخيمة في حين أن تقارير الاستخبارات التركية حول أعمال الشغب الكردية في إسطنبول وبعض المناطق التركية تمت بتوجيهات خارجية وأن إيرانوسوريا على رأس القائمة. ما الذي يجعل طهران متخوفه من التدخل التركي في سوريا وتحديدًا في منطقة عين العرب؟ وهل عين العرب وداعش صنعت كمبرر للتدخل الخارجي؟ وهل هناك تنسيق في هذا الشأن؟ الجواب واضح فثمة ما يؤكد وجود خطوط اتصال وتوافق سياسي، وهذا ما يثير حفيظة الإيرانيين، فتدخل تركيا سيساعد المعارضة السورية لتكون أكثر تأثيرًا ضد مفاصل النظام السوري، كما أن تركيا ستتدخل تحت مظلة مجلس الأمن الدولي وحلف الناتو، وهذا ما سيضعف قدرة الأسد على النيل عسكريًا من الجيش التركي، ولهذا فإن تزايد أعمال التخريب في تركيا قد تشترك فيه المخابرات السورية والإيرانية وحزب الله وبعض الأكراد التابعين لحزب العمال الكردستاني، خاصة وأن القيادة العسكرية للحزب ما زالت ترفض عدم حمل السلاح ضد الأتراك اعتراضًا منها على وثيقة الحل التي وقعها زعيم الحزب عبدالله أوجلان المعتقل في السجون التركية، ولهذا قالت الخارجية الإيرانية: إنه يجب على أنقرة تجنب حرف المواجهة مع المسلحين (ولم تقل الإرهابيين) باتجاه تحقيق مكاسب تكتيكية ومصالح آنية.