، ليس عيد المسلمين فقط بل كل أعياد الناس، إنها دليل واضح على أن الفرحة يصنعها الإنسان وقت ما يشاء ودون سبب خارجي، بمعنى أنه قد لا يوجد سبب مادي كزيادة في المال أو ارتقاء في الوظيفة، أو شفاء من مرض أو قدوم مولود، أو عفو عن ديون، أو نجاح في الدراسة، بل بالعكس، يتواطأ الناس على الفرح رغم الألم، رأيت صورة لنساء فلسطينيات يصنعن كعك العيد في ملجأ في غزة، هل هناك ألم حقيقي وجماعي اليوم وفي هذه اللحظة وفي هذا العالم أشد من ألم أهل غزة؟! ومع ذلك لم يكن العيد عندهم مؤجلا، رغم القتل والتخويف والترويع المستمر. حين يحدد الإنسان موعدا للفرحة، ويتهيأ نفسيا لها، ويكون ذلك بشكل جماعي، يثبت أن صناعة الفرحة ممكنة وناجحة بامتياز. الناس يحضرون ملابسهم وزينتهم، ويجمّلون أولادهم، ويدخرون بعض المال من راتبهم مسبقا حتى تكون أيام العيد رخاء لهم ولعائلاتهم، ويؤجلون كل المشاكل المعلقة وسوء التفاهم الحاصل في داخل العائلة الواحدة، بل يحث الناس بعضهم بعضا على التصالح وعلى تجاوز الخلافات، لأنه لا يصح أن يأتي العيد وثمة اثنان لا يتصافحان. نستقبل العيد بعبارات مثل: (كل عام وأنتم بخير)، (عيدكم سعيد)، (عساكم من عواده)، (من العايدين الفايزين)، (تقبل الله أعمالكم)، (ينعاد عليكم بالصحة والسلامة)، كلها أمنيات للخير يبثها المجتمع لأفراده، ودعوات مبطنة، وحب مكشوف ومفضوح في كلماتنا، نعلّم أبناءنا الصغار كيف يعايدون الناس، وكيف يردون على معايدة الناس لهم. في العيد لا نفرق في تمني الخير بكلماتنا بين قريب وبعيد، ولا بين من نعرف ومن لا نعرف، نبث أمنيات الخير ترافقها الابتسامة لعائلتنا وللخادمة والسائق والبائع، وللغريب في كل مكان نصادفه فيه، ونرسل الايميلات، ونكتب التغريدات لكل قارئ. ملايين العبارات والأمنيات نبثها في يوم واحد، ولو أننا زدناها جمالا باستشعارنا دعوة الخير مع كل نطق بالعبارة لكان العيد أكثر بهاء، أن نستشعر أننا فعلا نود أن تمر الأعوام والناس كلهم بخير، من نعرف ومن لا نعرف، بغض النظر عن اختلافاتنا ومشاكلنا، اختلافات اللون والعرق والأفكار والأيديولوجيات، وأن يعيد الله العيد في السنوات القادمة والناس بصحة وسلامة وحب. العيد دليل على أن الفرح والحزن صناعة نفسية، بغض النظر عن المسببات الحقيقية، وفي واقع الحياة نجد أناسا عندهم عشرات الأسباب الحقيقية للحزن، والتشاؤم والكآبة، ومع ذلك يصنعون الفرحة ويعيشونها، وينشرونها حولهم، حقيقة لا تصنعًا، ونجد أناسا آخرين لا يملكون سببا واحدا حقيقيا للحزن، ومع ذلك يعيشونه ويخلقونه في حياتهم، ويبثونه فيمن حولهم. الفرح والحزن صناعة وفقاعة نعيش بداخلها، نحن من ينفخ فيها ويصنعها، ونحن من نملك الخروج منها، ومثلها السعادة والرضا والتعاسة والسخط. الحياة مليئة بالأسباب الباعثة على التشاؤم، يكفيك أن تشاهد بشاعة الإنسان في القتل والتدمير، يكفي أن تتابع المخلوقات البشرية في الكيان الصهيوني، وبشاعة ما يقومون به في غزة، وصمت العالم ودعمه لهم، إن متابعة ما يجري في غزة كفيل بأن يجعلك تكره العالم، وتعيش الحزن لبقية حياتك، وتنزع الفرحة من كل أعيادك، وتجعل كل كلام عن الفرحة هراء وغباء. يكفي أيضا أن تقرأ عن حال وعدد الجياع في العالم، وعن الأطفال الذين يموتون بسبب ضعف التغذية، وعن الناس الذين لا يحصلون على مياه نظيفة، وعن المرضى الذين يتألمون ويموتون بسبب عدم وجود رعاية صحية، بينما يعيش العالم في سهو عن كل ذلك. يكفي أن تقرأ عن اللاجئين، وعن العالقين دون أوراق ثبوتية في الدول الغنية، وعن أطفال الملاجئ، وعن آلاف المخطوفين، وعن سوق النخاسة في العالم المتحضر، لترى كم هو العالم بشعا ويدعو للحزن، لكن من ناحية ثانية هناك جمال كامن في كل ذلك، جمال غريب يكمن في مقاومته والسعي إلى تغييره، جمال يكمن في عقل تلك المرأة الفلسطينية التي كانت تصنع الكعك قبل أيام لتحتفل بالعيد تحت صواريخ غزة، جمال يكمن في فرحة كل مريض يتألم وهو يبتسم فرحا بالعيد، جمال يشبه جمال ألم مخاض الأم وهي تلد طفلها، مصدره الإنسان ذاته. هناك جمال في الناس، في لقائهم والاجتماع بهم، في التعرف إليهم، في التأمل في اختلافاتهم، لا أقصد لقاءاتنا الدورية الروتينية، بل اجتماعات يسوقها القدر، مدبرة لنا، توافق سياقات وتراكمات حياتنا، تأتي في لحظة مناسبة بحيث لا يفي بحقها أن نسميها (صدفة)، مختلفة عن كل لقاء آخر. في كل إنسان بصمة لا تتكرر، ومهما عرفت الناس فستدهشك فرادة كل شخص جديد تتعرف عليه، حين تسمح له بأن يظهر كما يريد لا كما نحن نريد. التفكير في الماضي والمستقبل قد يبعث على الحزن، مجرد التفكير فيما سيحصل قد يبعث على التشاؤم، لكن اللحظة الحالية (الآن)، هي ما تدعو إلى الفرح، العيد هو (الآن)، وكل الأحزان القادمة تصبح مؤجلة، وكل الماضي في طيّ النسيان. المستقبل قادر على تدمير كل جمال، حتى العافية ورغد العيش بإمكان المستقبل أن يدمّره تماما، مجرد التفكير في زوال كل هذا يجعل لحظة الفرح تتلاشى، بينما عيش اللحظة، دون قلق المستقبل يجعل كل مستقبل هو اللحظة.