يختلف معنى العيد من مثقف إلى آخر، حتى في أحلك اللحظات التي تمر على الإنسان العربي وتربك تاريخه اليومي وسلامه وأمنه. يبقى للعيد مزاج آخر، ومعنى يجهد في النأي عن المآسي التي تحيط بنا من كل جهة، لا يرتسم العيد في وجوه الأطفال، كما يقال عادة، إنما حتى للكبار أعيادهم، في هذه الأعياد لهم طقوسهم وبرنامجهم مع الأصدقاء والأقارب، يلعب الوعي الاجتماعي والسياسي، من جهة أخرى دوراً في جعل لحظة العيد قاتمة وأميل إلى التشاؤم منها إلى الفرح والبهجة والتعبير عن الرغبة في الحياة، إلا أن هذا الوعي نفسه سيدفع صاحبه إلى بذل المزيد من المحاولات، من أجل التعالي على اللحظة الصعبة، وإعلان يوم العيد مناسبة للفرح، وليس فقط يوماً للتأسي وتقليب المواجع. «الحياة» استطلعت آراء عدد من المثقفين عن أي معنى للعيد، وسط مشاهد القتل والدمار في غزة وبعض المدن العربية. عمرو العامري: لا شيء سوى مشاهد القتل للعيد هذا العام غصة مختلفة، فهو يأتي والحال في كل المناطق المحيطة بنا لا تسر، اليمن والعراق وسورية ولبنان وفلسطين، ثم ما هو أبعد. وهذه الحال ليست جيدة ولا طارئة، لكن الوجع تعمق هذه المرة، وشاشات التلفزيون ما عادت تنقل شيئاً، عدا مشاهد القتل والدمار، وترسخ انسداد الأفق. فانطفأ فرح العيد قبل أن يصل. وحتى على المستوى المحلي والعائلي هناك تشظيات لم تكن توجد. ففي الماضي كان العيد هو الوعد للمّ الشمل وعودة الغائبين. ويكون فرح العيد مكسوراً أو منقوصاً إن كان هناك غائب ما غيّبته المسافات أو الغربة أو قدر أقوى. وكانت القرية تزهر بكل الذين كانوا خارجها. كانوا يفعلون المستحيل ليكونوا على الموعد، موعد العيد. الآن نتسابق للسفر خارج الوطن. وتغص بنا المطارات والمنافذ، وكأن الكل يهرب من الوطن. ولن نلوم أحداً، فالفرح أصبح هنا شحيحاً ومكلفاً وغير مقنع. ولا أظن أن بلاداً في العالم يهرب كل القادرين منها لممارسة فرح العيد خارجه سوانا. والموجع أن لا أحد يهتم ولا أحد يرصد هذه الظاهرة، ظاهرة الهرب، وحتى الذين كانوا يعودون للقرية ما عادوا يفعلون. ويقولون إن القضية لم تعد تستحق كل مشاق السفر، والعيد مجرد فاصلة صغيرة في عمر الزمن ما تلبث أن تمضي. بل إن العيد ما عاد يأتي بغير الحنين والشجن، واستعادة الذكريات الحزينة، ذكريات الذين كانوا معنا وما عادوا، غيبهم الموت أو البعد أو صروف الدهر، وأنا لا أفعل شيئاً في العيد عدا انتظار أن يمضي بأقل قدر من الشجن وخسائر الروح. أحمد سماحة: ليس مناسبة للتأسي يختلف معني العيد من مثقف إلى آخر، وفق ثقافته ووعيه ورؤيته لهذا الرمز الديني والموروث المقدس. وللعيد في جميع الرؤى معناه، فكان لدي المتنبي مدخل لهجاء كافور الذي لم يحقق له مرامه بالولاية، فرأي العيد مغايراً: «عيد بأيةِ حالٍ عدت يا عيد/ بما مضى أم لأمر فيك تجديد». فيما يراه الشاعر حسن توفيق برؤية أخرى: «بشائر العيد تترا غنية الصور/ وطابع البشر يكسو أوجه البشر/ وموكب العيد يدنو صاخباً طرباً / في عين وامقة أو قلب منتظر». وهكذا يمكن طرح الكثير من الأمثلة والمشاهد لدي عدد من الشعراء والمثقفين، عبر العصور التي مرت بالأمة الإسلامية. ونلتمس من هذه الرؤى تأثير الواقع المعاش علي إبداعاتهم، بكل معطياته من ألم وأمل، وتقدم ونهضة وأمن وأمان وغيرها. والظروف التي يمر بها العالم الإسلامي تجعلني لا أشعر فعلا ببهجة العيد، فأي بهجة وأنا أرى ما يحدث في غزة من قتل وتخريب، وفي العراق من هدم وتهجير، وفي سورية واليمن والصومال وأفغانستان من صراعات وقتال ودماء بين القوى الإسلامية، الذي يعد العيد أحد طقوسها المبهجة، وفق ما توارثناه من السلف. شخصياً لا أشعر بأي بهجة، ولكنه رغم ذلك ليس مناسبة للتأسي والحزن فقط، قدر ما هو مناسبة للدعوة إلي الخروج من دائرة هذا الحزن، والعمل علي ذلك بكل ما نملك من حروف وجهد ووعي. فاضل العماني: لا أحد ينتظر العيد، المجتمع العربي يتعاطى لحظة بلحظة مع المستجدات التي اجتاحت العالم العربي من محيطه إلى خليجه، و تحديداً مع «تسونامي» الربيع العربي. الوعي الجمعي بما يدور في العالم العربي يظهر جلياً من خلال «تويتر» و«الفايسبوك»، ومن خلالها تختلط النقاشات والآراء بالنظر إلى واقع المجتمع العربي، الذي يعيش مخاضات سياسية وفكرية واجتماعية واقتصادية، ذلك ما أثّر على سلوك المواطن العربي ومزاجه، الذي استبعد وأجّل الكثير من طموحاته و أحلامه. منذ أعوام والعيد لا يمارس كعادته، لم يعد الإنسان العربي ينتظر العيد بكل ألقه وجماله وروعته، بعد هيمنة الأوجاع والأحزان والآلام، حتى الصغار لم يعد يشغل ذهنهم الاستعداد للعيد، فسماء الوطن العربي ملبدة بالأحزان، ما يحدث في سورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن والبحرين والعديد من الدول العربية، بالأخص ما يحدث في النسخة الحديثة من مسلسل الجرح العربي غزة، التي تنزف وسط الذهول العربي والصمت الدولي، ذلك ما يخفي الطلّة البهيّة للعيد وفرحته من خلال الصور الموجعة للحروب والدمار والدماء. يأتي العيد وسط شلالات الدم وسقوط الأبرياء، وتنامي الفتن والمحن، وتراجع الدور العربي، ونحن نشاهد الفقد والحزن بدلاً من ثوب العيد السعيد، أي عيد نحتفل به وسط ساحة الفوضى وتصفية الحسابات، هذا العيد لم يحمل معه كل التفاصيل التي ننتظرها، إنه عيد بلا حلوى تقدمها عبارات التهنئة والتبريكات، بل هو بطعم القهوة العربية السوداء المرة التي أصبحت مشروبنا منذ أعوام عدة. أثير السادة: ورقة أخرى في روزنامة الحزن الشعوب العربية التي تقف على خط النار ستجد في نسخة العيد القادمة مجرد ورقة أخرى في روزنامة الحزن الطويل، فلا شيء هناك يكفي ليهب العيد لوناً أو طعماً، أما البلدان التي اعتادت أن تلج ذلك الحزن عبر نشرات الأخبار فقد دربتها القنوات الفضائية على أن تعتاد هذا التداخل بين الحزن والفرح، فكل شريط إخباري كافٍ على الأرجح على حملنا على أكف القلق، ومن ثم تحريرنا مع نهاية مختومة بابتسامة المذيع، أو بهجة الألوان في الفاصل الإعلاني. غلبة الحزن في المشهد العربي برمته كفيلة بإيقاظ مشاعر الحنق والخيبة، لكن الانقسام الذي يلفّ مجريات الصراع السياسي من أوضح قضية إلى أكثرها غموضاً، من الخلاف حول المقاومة في غزة إلى استبداد الدول والمعارضات، هذا الانقسام يصيّر كل تلك القضايا إلى مجرد مشكلات فكرية، مسرح لتبادل الكلام، فالناس خارج هذا المسرح يمارسون وجودهم ضمن الحد الأدنى من الأسئلة. الدفاع عن مظاهر الفرح مشروع في لحظة عربية لا تشبه إلا النكسة، لذلك سيستقبل العرب أعيادهم في أغلب الظن وهم كمن يدافع عن قيمة من قيم الحياة، الأهم في كل ذلك أن لا يتحول الوعي بقضايا الأمة ومشاكلها إلى مجرد لحظة للثرثرة، للتبذير في التفكير في بديهيات وجودنا وحقوقنا، فإذا كانت السلطات في الدول العربية قد فقدت إحساسها الحار بحميتها القومية، فلا ينبغي للإنسان العربي أن يتماهى مع هذا السلطات في هذا الموقف، وأن يكون حاضراً بانتمائه الإنساني أولاً، والعروبي ثانياً، ليخرج من فاصلة العيد وهو أكثر تمسكاً بحق بقية إخوانه بهذا المتسع من السعادة. رندا الشيخ: الفرح سرق منا ما يحدث في غزة منذ وعينا سرق من أعيننا الفرحة، مؤلم جداً أن تدرك الخوف والفقد وعدم الأمان في منطقة ما، بينما أنت تعيش مغتبطاً وتنعم بكل شيء، وفوق ذلك تتذمر من أمور تكاد تكون سخيفة في بعض الأحيان. كثير منا من يتهرب من مشاهدة القنوات الإخبارية، لئلا يشعر بمرارة العجز عن التغيير، ويفضل أن يبدو ساذجاً عن أن يشعر يومياً بالألم. ماجد سليمان: ألم جماعي للأمة إن ألم الشعوب العربية ليس ألماً خاصاً بأحد، إنه ألم جماعي للأمة كلها، وليل بهيم في عين المسلم خاصة والعربي عامة. لا يخفى على أحد أننا في كل مناسبة سعيدة كانت، أو العكس لا بد من حضور الهم العربي والقلق العربي والدمع العربي، نحن لسنا بمعزل عن إخواننا في أي قطر عربي، أقلها الدعاء والبذل المستطاع. الجرح العربي لا يفارقنا، هو لصيق قلوبنا كل وقت، ليس فقط في المناسبات أياً كان شكلها، أستحضر قول الشاعر: عيد بأية حال جئت يا عيد، اليوم بالذات ينام الجرح العربي معنا ويجالسنا، ويحدثنا عن مقدار الدم الذي يقطر في الوطن العربي، وما نحن حوله إلا نكف الأدمع ونلوم والأنفس، ونسجد لله ندعوا ونرجوا رحمته لهم ولنا. عن نفسي أكثر ما يلازمني هم أخواننا في الشام والعراق وفلسطين، وكيف لنا إلا أن نذكرهم في كل وقت حال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.