عيدي لا يشبه أحبابي؛ لذا أعجز أن أعيشه دائماً، حيث يأتي بارداً وسط ضجيج التهاني من حولي فأرتدي معطف الشتاء حتى أحمي ما تبقى من مشاعر دافئة.. يأتيني العيد فلا أستطيع أن أستعد له؛ فهذا الجديد لا أراه أبداً جديداً، وكل الزهور في حديقتي ذابلة، وتلك العطور الباريسية ترفض أن تعطر فضائي.. يأتي العيد فيؤلمني غيابك وغياب من اختاروا بإراداتهم الغياب؛ فالعيد يذكرني بخذلان الأصدقاء، ويستحضر رسائل شوق باهتة كنت أعتقد أنها جواز مرور إلى عالم المحبين، وحتى هذا الفرح المنسكب بسخاء فوق الوجوه لا أراه إلاّ مجرد خربشات لأطفال في لحظة لهو على الجدران، وتلك النجوم التي تلمع في سماء العيد لا أدري لماذا يرعبني بريقها البعيد، فلا هي تنير طريقي المظلم الطويل، ولا أستطيع أن أكمل عد عقدها المتسلسل بعناية. وفي كل مناسبة للعيد أجيد فن الاعتذار لحضور ولائم الأعياد الباذخة.. اقفل هاتفي وأوصد أبواب غرفتي وأسدل الستائر وأوصد الأبواب والنوافذ وأرمي برأسي المتعب فوق مخدتي، وأتظاهر بالنوم لأفتح نافذة فيها تطل على كل الخيبات التي احتفظت لنفسها بمكان داخل ذكرياتي، وكأني أحتفل بعيد الوجع لكل مناسبات الفرح التي تطل بغيابها وتأتيني خجولة دون ضجيج وتفضل الانزواء في زوايا الذكرى المزدحمة بكل ما هو مؤلم. مقادير الألم "تورتة" عيدي كاملة الحزن.. مقاديرها كوبان من الألم، وكوب من الدموع، وأربعة أكواب من المواعيد المؤجلة، وملعقتان من مسحوق الخذلان، وفنجان صغير من نكهة الوحدة، ولتر من خيبات متكررة، وخبزتها في فرن درجة حرارته العالية تصهر كل محاولات التأقلم مع لحظات فرح هاربة تمارس قسوتها مع وحدتي، وذلك عندما تغيب تهاني من توقعت أن يكونوا أول من يعانقون انتظاري، وأصدقاء فضّلوا أن يغيبوا بحجة الانشغال، وأحباب اختارهم الغياب فجأة تحت ثنايا الأرض، وبرغم ذلك أنا متفائلة إلى حد الجنون لا أطيق التشاؤم، وأخاف كثيراً من التفاؤل المبالغ فيه، وأعشق الألوان الرمادية، واحتفظ بتواريخ مناسبات من أحبهم وأفاجئهم بهدايا رومانسية فيها. يعتبر العيد احدى محطات الالتقاء الاجتماعي المميزة، ويشكّل راحة نفسية ودينية، وكسرا للرتابة، ونقطة تغيير جميلة بين المناسبات أو الشعائر التي نحبها ونستمتع بها، ومن الذكاء أن نعيش أنماط حياتنا كنوع من التغيير والرفاهية، ولكن يعيش البعض هذه المناسبات عبر مراحل من الحداد المستمر وأحزان غير ملتئمة وفتح جراح حاول الزمن شفاءها وربما لم يفلح، ونتيجة لذلك يحدث عدم قبول وتجاوز صدمات الحياة في وقتها، وجميعاً نعرف أن الدين الإسلامي حثّ على القبول والرضى لكل الأقدار، ووعد الصابرين خير الجزاء، ولكن البعض لا يستطيع ذلك ربما بسبب غياب الثقافة النفسية، والجهل بتعلم كيفية التعامل مع المشاعر السلبية بطريقة صحيحة، ولذلك يتحول العيد إلى ما يسمى ب "فتح ملفات الحداد" المستمر، وللأسف قد يصبح سلوكا يتعلمه الأبناء منّا؛ مما يؤثر على فرحة العيد في قلوبهم ويطفئ البهجة التي شرعها الله. حالة اكتئاب مجهولة! ويرى "د. حاتم الغامدي" -استشاري نفسي ومدير مركز إرشاد بجدة- أن مناسبات العيد عنوانها الأساسي الفرحة، ولكن البعض يعيش فيها الألم والتعب النفسي؛ بسبب اصابته بحالة اكتئاب مجهولة، ولذلك يفضّل أن يعيش لحظات السعادة بتعاسة، ويتلذذ بوجوده داخل دائرة الألم، خاصة أن أكثر الذين يعيشون في اطارها هم من كبار السن أو ممن فقدوا أحباباً في مراحل حياتهم، وأصبحوا لا يستطيعون مواصلة حياتهم دون هذا الشريك؛ فيعتقدون أن الحياة مرتبطة بهم، وهؤلاء قليلو التحكم والتكيف مع تغيرات ظروف الحياة المختلفة. وقال إن الكثير من الناس مع رتم الحياة لا يستطيعون ممارسة فن عيش اللحظة، ودائماً نجدهم يعيشون في بُعد الماضي؛ فيتذكرون احداثه الحزينة ولا يستطيعون التحرر منها أو العيش في بعض المستقبل؛ فيعيش في قلق دائم من الغد، ولذلك الكثير لا يستطيع الاستمتاع بلحظة العيد، ويتمنى وجود أحبابه الغائبين عنه، مشيراً الى أن بعض الناس ترتبط سعادتها بأشخاص أو حيوانات أو موقع معين، وهؤلاء يُطلق عليهم الأشخاص الارتباطيون، وهذه حالة مرضية متفشية، ومع رتم الحياة السريع أصبحنا نعاني من عدم الاستمتاع باللحظة، داعياً إلى ضرورة الارتقاء والوعي بذات الإنسان حتى يستمتع بكل لحظة جميلة في حياته؛ فالحياة أكبر خيار بالنسبة لنا؛ فإما أن نختارها ونعيش بسعادة أو نختارها ونعيشها بتعاسة، لافتاً إلى أنه في ظل تنوع وزيادة وسائل الاتصالات فقد قلّ التواصل الفعّال الذي يصدر من القلب، ونجد العائلة منفصلة داخل حدود المكان، والكل منشغل بعالم وهمي، والكل يشكو من غياب أحبابه عنه. "عُسر المزاج" وأضاف "د. سعد المشوح" -أستاذ الصحة النفسية المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن مناسبة العيد تعد من المناسبات التى يجمع الناس عليها أنها مناسبة فرح، ومناسبة اجتماع ولقاء، ويكون الأفراد بها في أفضل حالات الراحة والاطمئنان النفسي إذا كانت ظروفهم النفسية والاجتماعية مناسبة، مع عدم وجود اشكاليات تتعلق في التكيّف أو وجود ظروف طارئة، موضحاً أن مناسبات الفرح والاندماج مع الاخرين تعد أوقاتاً مستمرة وغالباً ما يُحكم على الأشخاص بأنهم قادرون على الاندماج مع الآخرين، من خلال العلاقات الإنسانية المتبادلة، ولكن المجتمع والأفراد يحكمون من أن هناك عدم قدرة على الفرح فقط خلال المناسبات، ومنها على سبيل المثال مناسبات العيد، والمناسبات الاجتماعات الموسمية، مرجعاً أسباب ذلك لعدم القدرة على الفرح والشعور بتلك المناسبات لأسباب عديدة قد تكون نفسية بحتة، وتظهر بشكل أساسي، وقد تكون اجتماعية، وقد تكون لأسباب تتعلق ببقاء الفرد تحت عقوبة جنائية أو ظروف صحية واضحة، حيث أن الظروف الصحية والأسباب الجنائية يمكن للمجتمع فهمها، ولكن الأسباب النفسية قد تمثّل عبئاً على الفرد والمحيطين به وبشكل كبير. وأشار إلى أن من أسباب عدم الشعور بالفرح من جانب بعض الاشخاص إصابتهم باضطرابات نفسية قد تكون هي السبب المباشر وراء عدم قدرتهم على الفرح والاندماج في أفراح العيد مثلاً، ولعل الاضطرابات الشخصية يمكن أن تؤدي إلى عدم قدرة الفرد أحياناً إلى التوافق النفسي والاجتماعي بتلك المناسبات، كما أنه قد يصاب الكثيرون من الأشخاص باضطرابات نفسية رئيسة تُسمى اضطرابات المزاج، وهي تتعلق إما بنوبات من الهوس المتكررة أو اضطرابات ثنائية القطب مثلاً "نوبات من الهوس"، ومن ثم اكتئاب، وتكون بينها فترات من السكون وعودة الفرد إلى طبيعته بشكل مقبول أو تكون نوبات اكتئابية متكررة، ومن أشهرها اضطرابات المزاج التي يلاحظ وجود أعراضها على الأفراد بما يسمى ب "عُسر المزاج"، حيث يشعر الفرد بعد الرغبة في القيام بالأنشطة الاجتماعية والإحساس بوجود تثاقل، وعدم الرغبة أيضاً في القيام بمناشط اجتماعية وعائلية، والإحساس بالتعب والإجهاد المستمر، والشعور بأن الحياة لا تستحق المتعة وغيرها من الأعراض الرئيسة. وقال "د. المشوح" إن الأشخاص الذين تم تشخيصهم بحالة اضطراب "عُسر المزاج" يحتاجون إلى العلاج الدوائي والطبي والعلاج السلوكي، ولكن تكمن المشكلة في أن الكثير من الأشخاص لا يرغبون في استشارة الطبيب النفسي أو القيام بزيارة طبية نفسية، وقد يشعر الذين يحيطون بهم أنهم أشخاص بائسون وغير فرحين، والحياة معهم مملة، وأنها ترتبط بذكريات مؤلمة؛ لذلك هم دائماً يشعرون بالحزن، ولذا يجب أن يكون لدى المجتمع ثقافة نفسية حقيقة، وليس مجرد آراء قد تكون مبتورة تجاه نظرتهم لآخرين أو نظرة الإنسان لنفسه، وأنه حبيس للخبرات والتشاؤم وعدم القدرة على الشعور بالفرح، وقد سخر الله سبحانه وتعالى الدواء النفسي وفق استشارة طبية رصينة لصالح المرضى؛ لينعموا بطعم الحياة ويشعروا ويستشعروا فرح الاخرين، لا سيما في مثل أيام الأعياد المباركة. تساؤلات مثيرة وأكدت "سحر رجب" -مدرب ومستشار معتمد من المجلس العربي عضو هيئة الأممالمتحدة ومستشار معتمد لإزالة المشاعر السلبية- على ضرورة إدخال السعادة والسرور على القلب وعلى من حولنا، مشيرة إلى أن شعورنا بالحزن لمن فقدناهم أو تجاهلوا وجودنا لا داعي له؛ فكلنا يغيب له غالٍ على القلب والعين، وهذه سنة الحياة؛ فنحن نذكرهم لأننا أحياء وغداً هناك من يتذكرنا ويتذكر أفعالنا عندما نكون تحت التراب، وأن الدنيا لا تدوم على حال نرتجي فيها السعادة والفرح والغبطة والسرور، متسائلة: لماذا أجلد ذاتي في أيام السعادة والأعياد؟ هل لأنهم رحلوا أما بسبب معاملتي السيئة لهم؟ هل أحببتهم أم نفرت منهم فأصبحت أجلد ذاتي وأقمعها في كل فرصة سعادة؟ هل فعلاً أغضب وأحزن وحدي أم أجلب الكآبة لمن حولي؟ ثم لماذا أجلب التعاسة لنفسي في العيد؟