في عيدَي الإسلام، الفطر والأضحى، من المعاني الجميلة والمحاسن العظيمة والحكم الجليلة ما لا يوجد في غيرهما من أعياد الأمم الأخرى أو الأعياد المبتدعة، وفوق ذلك يتميز كل عيد من عيدَي الإسلام بمميزات عن الآخر، تُضفي على حسنهما حسناً، وتزيد بهاءهما بهاء وجمالاً. وتأمل .. كيف جعل الله تعالى الفرح عبادة، حيث جعل - سبحانه- الفطر في يوم العيد واجباً والصوم حراماً، وأبرز مظاهر الفرح في العيد هي الفطر، وفي الحديث: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»، والفرح غاية مهمة ينشدها الإنسان ليحقق سعادته، فيجهد لتوفير أسبابها وتهيئة أجوائها، وقد يصنع الإنسان في سبيل ذلك ما يضر بنفسه، أو يفرح بما لا يحقق لها سعادة أو سروراً، أما الفرح الذي يهيئه الله تعالى للمسلمين ويشرعه لهم فهو الفرح الكامل والسرور التام، فأتم الفرح وأحسن السرور أن يفرح العبد بما شرع له ربه عز وجل من عبادات، وأمره به من طاعات، ورتب على ذلك من ثواب وحسنات، قال ابن القيم: (فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسُر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به، أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن، كما فسره الصحابة والتابعون) الفوائد المجموعة لابن القيم. ومن صور الفرح بفضل الله تعالى ورحمته فرحة العيد! ومن الناس من لا يعرف الفرح له طريقاً ولا يعرف طريقاً إلى الفرح طوال العام أو أكثره، لما أحاط به من هموم أو أحزان، فيأتي شهر الصوم العظيم، يتبعه عيد الفطر، بما شرعه الله تعالى فيه لنا من الفرح والسرور، ليكسر ما أحاط بالقلب من الهموم، ويُخرج ما توطن فيه من الأحزان، ليرى الحياة بوجه جديد، يبعث فيه البهجة، ويجدد له الأمل، حين يبيت ليلة الفطر سعيداً بإتمام صومه، ويستقبل العيد بالسنن المستحبة التي تبعث في النفس السرور وتجدد فيه النشاط، فيغتسل للعيد، ويلبس أحسن الثياب، ويفطر على وتر من التمرات، ثم يخرج مع إشراقة شمس يوم جديد، يستنشق نسيم الصباح، ويستقبل النهار بوجهه، ويذكر الله تعالى مكبراً ومهللا وحامداً، ساعياً إلى الصلاة، مرققاً قلبه بسماع الموعظة، ليَلقَى بعدها إخوانه ويأنس بهم، فيا لها من عبادات وسنن وأفراح تكسر الهموم وتذيب الأحزان وتجدد النشاط. وفي عيد الفطر فرصة لا تدانيها فرصة لكي يستثمرها الناس في بر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار، بمبادلة الزيارة والمعايدة والتهنئة وغيرها من مظاهر الفرحة، كما فيه فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين، وإزالة ما زرعه الشيطان في قلوب المتخاصمين والمتنازعين من حواجز البغضاء والفتن، فكلمة تهنئة واحدة في العيد قد تزيل تلك الحواجز، وتداوي الكثير من الجراح بين المتدابرين من الأصحاب والأزواج والعائلات والأسر، وترسل على العلاقات التي أصابها الجفاف قطرات من ندى المحبة، تعيد لها الحيوية والنشاط، عن محمد من زياد قال: (كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ،فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك)) . قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد ([الجوهر النقي 3 / 320 ]. وانظر إلى جمال التشريع في الإسلام، حيث شرع الله تعالى من العبادات ما يوحّد بينهم بصورة عملية، ويدمج بينهم في الانتماء والعواطف والأحاسيس، والعيد هنا من هذه العبادات، فالمناسبة واحدة، والفرحة فيه واحدة، ومراسم الاحتفال واحدة، وهذه المشاركة مما يعمل على ربط القلوب، وتعميق الصلات بين الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها وعاداتها ولغاتها. كما أن في العيد فرصة كبيرة لتوطيد العلاقات بين المسلمين، وتقوية روابط الأخوة والمودة، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل هذا مما ينبغي استثماره في تحسين العلاقات بين دول الإسلام، وإذابة ما قد يطرأ على العلاقات بينها طوال العام من خلافات ومشاحنات، وبناء ما انهدم من أواصر وروابط بين الدعاة والقادة والزعماء والحكام. وانظر إلى رحمة الله تعالى الواسعة، كيف فرض على المسلمين أن تكون الفرحة بينهم عامة لا يُحرم منها أحد، حيث فرض سبحانه صدقة الفطر، ليشترك الفقراء والمحتاجون والأغنياء جميعاً في هذه الفرحة العظيمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) [رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن]. وهكذا يزرع العيد في قلوب المسلمين المودة والرحمة، ويربيها على حب الخير للآخرين، ويدرّبها على معالجة المشكلات الاجتماعية، حين يدفع الإسلام المسلم -بفرض صدقة الفطر عليه- إلى الإحساس بالفقير والمسكين، فيألم لحالهم، وقد ذاق طعم الجوع مثلهم في شهر رمضان، فيخرج ليشتري لهم من الطعام ما يسد حاجتهم في العيد، ويغنيهم عن السؤال يوم الفطر والفرح، ثم يبحث عنهم ويذهب إليهم ويقدم لهم ما يستحقونه من طعام. فأي تدريب للنفس بعد هذا، وأي تربية لها على البذل والعطاء والإحساس بهموم الآخرين، والعطف عليهم، الكلمات هنا لا تكفي لوصف ما تزرعه صدقة الفطر وحدها من أخلاق فاضلة ومعان نبيلة في نفس المسلم.