الحياة فرص، والوقت يمضي، والسن يزداد، والقوى تضعف، والاشغال تكثر، فمتى تتوقع أنك تنظم الأعمال وتنتهز الفرص؟! إن معظم نجاحات الناجحين ترجع لأسباب منها المبادرة وعدم التسويف، وكم من فرصة، أو نجاح، فات بقول الانسان 'سوف!'، ثم شيع ذلك بالندم ولذلك قيل: 'التسويف سم الاعمال وعدو الكمال'. وقد عقَد الخطيب البغدادي بابًا في كتابه "اقتضاء العلمِ العملَ" بعنوان: باب ذم التسويف، وقد جاء فيه: قِيلَ لرجلٍ من عبد القيس: أَوْصِ، فقال: احذروا (سوف!). واذكر صديقا عزيزا قريبا لقلبي وهو الدكتور عبدالرحمن الجمهور- رحمه الله-، أعرفه لما تجاورنا في أمريكا، كان حميماً إيجابياً باذلاً خلوقاً، وأصبح شعلة من النشاط والحيوية والعمل والانتاج في جامعة الإمام، وكان سندا لمديرها السابق الدكتور محمد السالم- وفقه الله-. صلى معي الدكتور عبدالرحمن عدة أعوام في رمضان، فكنت أقول له: أما آن لأبي محمد أن يعتكف ويخلو بربه العشر الأواخر؟ فيقول: أتمنى! ولكنها الأعمال! حتى كان عام 1426ه، صلى معي أول رمضان، فقلت له: أرجو أنك عزمت؟ فقال: بإذن الله عزمت هذه المرة ألا أؤجل، فلقد سوفت وأجّلت عدة أعوام، وفعلا اعتكف اعتكافاً حقيقياً، لم يختلط بأحد، كان كثير الصمت، يصلي ويذهب لمعتكفه يقرأ القرآن ويبادر للصلوات، ثم خرج ليلة العيد، وما هي إلا عدة أشهر حتى قبضه الله غريقاً على بحر العرب، فكأنَّ اعتكافه ذلك العام اعتكاف مودع، وختام لعمره، وتهيئة للقدوم على الله، رحل وهو في عز قوته: (50 عاماً) رحمه الله تعالى.. أعزائي القراء.. إنَّ كثيرا من الأعمال الطيبة نريد أن نعملها فنسوِّف، وبعض الأعمال السلبية نريد أن نتركها فنسوِّف، لكن السؤال الأهم من يضمن لك الحياة؟ ويعطيك صكاً مختوماً بطول مكوثك في الحياة؟! إن أعظم أسباب التسويف لدى الإنسان الالتهاء بالدنيا وطول الأمل، ثم إذا مر العمر اذا بكثير من الأمور لم تتم، والآمال كثيرة، ولذا ورد في الحديث عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يقول: "لا يزال قلبُ الكبير شابّا في اثنتين: في حبّ الدّنيا، وطول الأمل" رواه البخاري واللفظ له وللترمذي. يضاف لذلك كسل الانسان وحبه للدعة والراحة، والعاقل يقول لنفسه كما قال الرائدون: 'من أراد الراحة ترك الراحة'، فراحة النفس تتطلب تحريك الجسد، ونعيم الآخرة يتطلب حرث الدنيا، والإنسان في الدنيا كأنه في خيال أو منام، حتى إذا مرض أو مات، أحس بأهمية الصحة والحياة، يقول ابن القيم- رحمه الله-: ما مضى من الدّنيا أحلام، وما بقي منها أمانيّ، والوقت ضائع بينهما. وانظر لكثير ممن مات أو رحل هل أنهى جميع ما يأمله؟! قال عبد الصّمد بن المعدّل: ولي أمل قطعت به اللّيالي *** أراني قد فنيت به وداما إنّ من أراد النجاح في الدنيا والفوز بالآخرة فلا يؤمِّر التسويف عليه، ولا يجعل للكسل عليه سبيلاً، فإنهما سيحرمانه من أجور كثيرة وحسنات وفيرة ومقامات عالية؛ قال يوسف بن أسباط: كتَب إلَيَّ محمد بن سمرة السائح بهذه الرسالة: "أي أخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك، وإمكانه من قلبك؛ فإنه محلُّ الكلال، ومَوئِل التلف، وبه تُقطَع الآمال، وفيه تنقَطِع الآجال". ولعل من أعظم ما يعينك على علاج التسويف تنظيم الأمور وتخطيطها وعمل الممكن لو قليلاً، فخير العمل أدومه وإن قل، وعدم الالتفات للماضي، وأخذ النفس بالتدريب والتدرج، مع مغالبة النفس ومسارعة الايام، والاستعانة بالغدوة والروحة، واعطاء كل ذي حق حقه، والاعتدال في جميع الأمور، وعند الصبح.. يحمد القوم السرى!