سورة يوسف من السور الرائعة في القرآن الكريم لما فيها من معان ودلالات (تربوية، دعوية، اجتماعية، قانونية، اقتصادية) إلى حد وصفها الله - عز وجل - بأنها من أحسن القصص في القرآن الكريم لقوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) لأنها احتوت على جميع فنون القصة وعناصرها من التشويق وتصوير الأحداث والترابط المنطقي كما يقول علماء القصص. فعلى سبيل المثال نجد أن القصة قد بدأت بحلم أو رؤيا رآها يوسف - عليه السلام - وانتهت بتحقيق وتفسير ذلك الحلم، ونرى أن قميص يوسف - الذي استخدم كدليل لبراءة أخوته - كان هو نفسه الدليل على خيانتهم، وهذا القميص استخدم - بعد ذلك - كدليل لبراءة يوسف نفسه من تهمة التعدي على امرأة العزيز، ومن ثم استخدم كشفاء لعيون والده يعقوب عليه السلام، كل هذا يبين روعة هذه القصة ومعانيها وأحداثها، أما القارئ فكأنه يراها بالصوت والصورة. والأعجب أن هذه القصة تتضمن بيان قواعد ومبادئ قانونية راقية يعتمدها المحققون في كل الأزمنة والأمكنة من أجل كشف الجناة في الجرائم الجنائية في كل العالم المسلمين وغير المسلمين، حتى نعرف روعة معاني القرآن الكريم وشموله كل نواحي الحياة التي يحتاجها الإنسان، ويتبين ذلك من خلال النقاط التالية: - بقع الدم الموجودة في مسرح الجريمة تعتبر دليلاً مهما في كشف الجرائم ومرتكبيها كما بين ذلك قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) سورة يوسف، آية (17). - الشهود تعتبر من أهم الأدلة في كشف الجناة عند ارتكاب الجريمة وتمت تبرئة يوسف - عليه السلام - من جريمة الاعتداء الجنسي على امرأة العزيز عن طريق الشاهد الذي كان موجوداً في مسرح الجريمة لقوله «عز وجل» : (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) سورة يوسف .. آية (26). - الاعتراف يعتبر سيد الأدلة في كشف الجناة والمجرمين في الجرائم الجنائية، ويتبين ذلك بوضوح من خلال الآيتين الآتيتين (51-52) اللتين تنصان على اعتراف (نسوة المدينة - وامرأة العزيز ) لقوله «تعالى» : (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) وإن الآيات من (91-97) التي تشمل اعتراف (أخوة يوسف) لقوله «تعالى» : (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ) (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) أي أن (نسوة المدينة - وامرأة العزيز - وأخوة يوسف) اعترفوا ببراءة يوسف «عليه السلام» وارتكابهم جرائم بحق يوسف. - مكان وقوع الجريمة يعتبر مبدأ مهما في كشف الجريمة والجناة كما في آية (15) التي تتضمن مكان ارتكاب جريمة الشروع في قتل يوسف خارج البيت لقوله «تعالى» : (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ). والآية (23) التي تبين ارتكاب جريمة الاعتداء الجنسي داخل بيت امرأة العزيز ، أي في منزل الزوجية لقوله «تعالى» : (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) لأن مكان ارتكاب الجريمة وصفة المرتكب، لهما أهمية في تشديد أو تخفيف العقوبة في القانون الجنائي. - كشف الكذب الذي يعتبر طريقة لكشف المجرم عند ارتكاب الجريمة الآية (18) (وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) التي تتضمن كذب (أخوة يوسف) على أبيهم بشأن أكل يوسف من قبل الذئب. والثانية كذب ( امرأة العزيز) بشأن محاولة اعتداء يوسف عليها، كما في الآية (25) (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم). - الأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة كما في الآيات (18-25-72) التي تشير إلى أن أخوة يوسف استعملوا قميصه الملطخ بدم كذب كي يقنعوا أباهم بقتل يوسف «عليه السلام» ( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) آية (18). والثانية تمزيق قميص يوسف في قضية جريمة الاعتداء الجنسي من قبل امرأة العزيز (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) أية (25)، والثالثة صواع الملك في قضية السرقة (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) أية (72). ومن خلال ما تقدم يتبين لنا براعة وإعجاز القرآن الكريم في كل نواحي الحياة وصلاحها لكل الأزمنة والأمكنة وبيانها في هذه السورة المباركة أهم المبادئ الأساسية في التحقيق في الجرائم الجنائية العالمية علما بأن القرآن الكريم يحتوي على مبادئ قانونية أخرى رائعة مثل (البصمة) ودورها في كشف الجرائم بمختلف أنواعها كما في سورة القيامة (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) كونها تختلف من إنسان إلى آخر كما اكتشفها العلم الحديث، وهذا يزيدنا ثقة واطمئنانا من خلال إعجاز الآية القرآنية (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي تطرق القرآن الكريم إلى كل جوانب الحياة بشكل مباشر أو غير مباشر.