عندما يقال "الحكيم" تتجه الأنظار صوب المناضل الفلسطيني جورج حبش، الزعيم السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بما يمتلك من تاريخ نضالي حافل، وقيمة أخلاقية والتزام بالقضية أبى معه إلا الوقوف حيث هو، مفضلا برد المنافي على دفء سراب أوطان. حكمة جورج حبش ليست هي المقصودة في حديثنا اليوم، وإن كنا سنستعيرها ونقاربها في بعض المواضع، إلا أن حكيمنا هو رجل من أهل هذه البلاد، رجل ابن ضيعة، شرب من ماء الترعة - كما يقول إخواننا المصريون-، واستظل بسعفات "أم الحمام"، وبشاربه الكثيف يطل عليك محييا وأنت تناديه يا "أبا حمادة". أبو حمادة هذا رجل بسيط الملبس، والمأكل، والمشرب، والسلوك، والحياة. سهل المعشر، عصي العراك. باب بيته الصغير مفتوح للزوار عصرا وليلا، لا يقول لقادم "لا". حياته بين محطة التلفاز ومجلسه. في الصباح وحتى نهاية عمله يسعى بجد كادا على عياله، وفي المساء يسعى باجتهاد في إعداد خلطاته السرية للشاي والحليب والنعناع التي تنعش الشاربين. يقدم لك صحن المكسرات الدائري لتتطلع فيه فتجده يحتوي على "الحب/الفسفس" وفقط، تديره من كل الجهات، حبٌ وفقط، لكن بأنواع مختلفة، وكأنه يقول لك إن الحياة جوهرها واحد، وصورتها واحدة، مهما تنوعت وتشكلت مظاهرها الخارجية. حكمة أبو حمادة لم تصنعها الجامعات، بل ضنك الحياة وخبرتها. تراه وتحسبه من أذناب القوم، لكنه في جوهره وساعة الجد من أعلاهم معدنا، وأنقاهم سريرة، وأحزمهم قرارا، وأصدقهم قولا. حكمته حكمة الأجداد، وإيمانه إيمان العجائز. حكيمنا هذا كحكيم فلسطين، لا يكل ولا يمل يشحذك بالمبادئ والقيم، ويبشر بأن الأرض يرثها عباد الله المخلصون. جورج حبش يصيح "القدس لنا"، وأبو حمادة يردد من ورائه. كلاهما قتلتهما حكمتهما، وأقعدتهما حكمتهما. جورج حبش ومنذ 1948 وهو ملتزم بالقضية، دمه، وجهده، وماله لها. وإلى أين انتهى؟ قابع في سورية يندب فلسطين. وأبو حمادة منذ 34 عاما وهو يعمل وراتبه لم يتجاوز 3600 ريال!. كلاهما وقفا مكانهما، كلاهما بذلا ماء قلبهما، وزهرتا شبابهما، لكنهما بقدر ما كانا سخيين، بقدر ما كانت الحياة شحيحة معهما. وبقدر ما كانا مخلصين، بقدر ما كانت الحياة خسيسة معهما. إنها الحكمة في زمن الردة.