للبعد ما يفتح الباب واسعا لجموح الخيال ومثالية الفكرة، وللموت ما يجعل الصورة ترتقي إلى درجة الأيقونة، خاصة اذا كان الغياب تراجيديا، بعيدا عن الأهل والوطن. هكذا يولد ابطال الحكايات الشعبية، وهكذا يستمرون احياء في الذاكرة. جورج حبش لم يسقط في ميادين المواجهة مع العدو الذي ظل بالنسبة له حتى اللحظة الأخيرة هو (اسرائيل)، بل على سرير في مستشفى في عمان التي نسيت خصومتها معه في سنوات السبعين واحتضنته واسرته الصغيرة في سني عمره الأخيرة. وفي ترابها -وليس في اللد مدينته الجميلة- مرقده الأبدي. انحاز حبش الطبيب أو "الحكيم" - كما يحلو لمحبيه ان ينعتوه- في سن مبكره إلى مأساة شعبه التي عاشها واسرته بكامل تفاصيلها عندما خسروا كباقي ابناء شعبهم، البيت والوطن والذكريات الجميلة في اللد (فلسطينالمحتلة 1948) ليصبحوا بين ليلة وضحاها مشردين ولاجئين وغرباء. كان بامكان هذا الشاب المسيحي الدين، والفلسطيني الانتماء والعربي القومية، ان يسلك مثل غيره طريقا اخرى تقوده إلى الثراء في أي بلد عربي او اجنبي، وهو "دكتور" في زمن لم يكن فيه الكثير من الأطباء ولا المتعلمين. لكن هذا الشاب المكوي بنار النكبة والضياع، ابتعد عن سبل النجاة الفردية إلى طريق الخلاص الجماعي لشعبه. فكان المد القومي مشروعه الذي بشر به من اجل استعادة فلسطين والنهوض من رماد الهزيمة والانكسار، فاسس مع جيل من المتحمسين حركة القوميين العرب، التي مثلت النواة التي انطلقت منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفصيل الذي اسسه "الحكيم وقاده نحو ثلاثين عاماً". شهد جورج حبش سنوات حافلة بالمد والجزر في العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، مع المحطات الكثيرة التي تنقلت بينها القضية الفلسطينية، بدءا بالبرنامج المرحلي للتسوية التي اعلنت اوائل السبعينيات، مرورا بجبهة الرفض، واغتيال ظافر المصري، وصولا إلى اوسلو. وكما لم يفعله غيره من قادة العمل الوطني الفلسطيني، قرر "الحكيم" اعتزال منصبه كامين عام للجبهة الشعبية، وسلم الراية للرجل الثاني في الجبهة ابو علي مصطفى، ولكنه ظل أبا روحيا لهذا الفصيل الذي قدم آلاف الشهداء منذ ولادته. عرف عن "الحكيم" نزعته "التطهرية" ورفضه ان يكون شريكا في أي فعل سياسي يمس بقدسية فكرة ان فلسطين هي وطن للشعب الفلسطيني من البحر إلى النهر، فكان من اشد المعارضين لكافة مشاريع التسوية، وهو ما دفعه إلى الخروج من منظمة التحرير إلى جبهة الرفض قبل ان يعود مجددا إلى المنظمة. لكنه والتزاما بمبدأ "الديمقراطية" الفلسطينية وجد نفسه في مواقع قبل فيها بمشاريع طالما رفضها، لا سيما القرارين 242و 338.ونذكر كيف وقف شاحب الوجه في قصر الصنوبر بالجزائر في اجتماع المجلس الوطني، و(أبو عمار) يعلن قبول المنظمة لهذين القرارين ويعلن عن "استقلال دولة فلسطين" على الورق.. أثار "ابو الميساء"، جدلاً كبيراً على مستوى العالم، كقائد لفصيل انتهج في مرحلة من مسيرته استهداف المصالح الاسرائيلية والغربية في العالم، لا سيما عمليات خطف الطائرات. عاش حبش منعطفات كثيرة في حياته وعلاقاته مع بعض الدول العربية. ووجد نفسه وجبهته، في مواجهة مع السلطة في الأردن، انطلاقا من افكار راديكالية كان لها بريقها في ذلك الوقت، مفترضا بان الأردن يجب ان يكون ساحة مفتوحة ينطلق منها الفدائيون إلى خطوط المواجهة مع (اسرائيل). وللمفارقة لم يكن غير الأردن بلدا يختاره "الحكيم" ليقضي بهدوء ما تبقى له من العمر، ربما كان لقربه من فلسطين التي طالما حلم بالعودة اليها، لكنه رفض ان يدخلها تحت الحراب الاسرائيلية. ربما كان "الحكيم" باقامته في الأردن يعتذر عن طيش سياسي، او ربما كان يريد ان يقول في سني النضج ان هناك بين الاخوة الأردنيين والفلسطينيين الكثير ليوحدهم اكثر مما يفرقهم.. وقد شيعت عمّان جثمان "الحكيم" أمس حيث انطلق موكب التشييع الذي شارك فيه نحو خمسائة شخص من مستشفى الأردن وسط عمان الى مقر كنيسة الروم الارثوذكس في منطقة الصويفية (جنوب شرق عمان) لإقامة الصلاة عليه قبل ان يوارى جثمانه الثرى في مقبرة سحاب. وتجمع المشيعون حول الكنيسة وهم يرفعون الاعلام الفلسطينية واعلام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الحمراء وصورة ضخمة لحبش ولافتات كتب عليها "وداعا ايها الحكيم انا على العهد باقون". وقام جنود من قوات جيش التحرير الفلسطيني (قوات بدر) بحمل النعش الذي لف بالعلم الفلسطيني وادخاله إلى الكنيسة وسط هتافات "جورج حبش مابيموت ولوحطوه جوى التابوت". وشارك عدد من الشخصيات السياسية الفلسطينية في مراسم التشييع يتقدمهم رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون الذي ينوب عن رئيس السلطة محمود عباس ونايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.