عجزت عن العثور على تفسير مقنع لهذا الذي يحدث للمساجد هذه الأيام، واخشى ان تستمر حيرتنا ازاءه طويلاً، الامر الذي يفتح الباب دون مبرر للبلبلة وسوء الظن، وفينا منهما ما يكفينا. (1) خذ مثلاً حكاية توحيد الأذان في المساجد، بدءاً بمدينة القاهرة. وهو المشروع الذي اطل علينا دون مقدمات، فاثار لغطاً ترددت اصداؤه في داخل مصر وخارجها. اذ في حين هلل له البعض بحسبانه انجازاً على صعيد "الاصلاح الديني" فان كثيرين، الاغلبية فيما أتصور، استقبلوا الفكرة بانطباعات تراوحت بين الحذر والتوجس والاتهام. لست اخفي ان طرح الفكرة كان مفاجئاً بالنسبة لي. اذ رغم انني ازعم انشغالاً ومتابعة لمسيرة الخطاب الديني خلال العقود الثلاثة الاخيرة على الاقل، فانني ما تصورت ان يصبح توحيد الاذان في المساجد أمراً له علاقة بتطوير ذلك الخطاب او تجديده. وعلى كثرة ما حضرت من ملتقيات ومؤتمرات في هذا الصدد، فلم يحدث - ولو مرة واحدة - ان أثير الموضوع باعتباره مشكلة في مجتمعات المسلمين تحتاج الى حل، ناهيك ان تتطلب تدخل سلطة الدولة بكل جلالها وهيلمانها. نعم، قرأت على سبيل التندُّر ان بعض السياح الاجانب استكثروا مسألة رفع الأذان خمس مرات في اليوم الواحد، وتساءلوا: لماذا لا يكون ذلك مرة واحدة؟ وعذرتهم فيما قالوا. ووقعت على كتابات اخرى لبعض المثقفين في مصر خاصة، ممن اعربوا عن استيائهم من الازعاج الذي يسببه لهم رفع الاذان من خلال مكبرات الصوت، خصوصاً حين يكون المؤذنون من اصحاب الاصوات النشاز. وهي ظاهرة اعانيها شخصياً، بسبب وجود مسجد صغير تحت البناية التي اسكنها، تخصص في الاستعانة ببعض الاصوات المنفرة، واعتبر المشرفون عليه ان الاذان والصلوات لا تصح، ولا تقبل عند الله، الا اذا تمت من خلال رفع صوت الميكرفون عند الحد الاقصى. وقد فشلت في اقناعهم بأن ابواب السماء تفتح للهامسين، وان بلوغ تلك الابواب لا يحتاج الى مكبر للصوت. كما انهم اشاحوا وجوههم حين قلت: ان الاسلام انتشر في اصقاع الارض بغير ميكروفون. واذ لاحظت ان المشرفين على المسجد اناس محترمون من ذوي المكانة الاجتماعية المعتبرة، فقد اعتبرت ان مسألة رفع الاذان والتلاوة في الصلاة من خلال مكبر الصوت هي مسألة اجتماعية وليست دينية. بمعنى انها من تجليات "ثقافة الضجيج" السائدة في مصر، حيث لا احد يؤدي ما عليه في هدوء وصمت، وانما كل يصيح ويصرخ ما وسعه الصوت. فالمسئولون يطنطنون بانجازاتهم من خلال وسائل الاعلام طول الوقت، والمثقفون يصيحون من فوق المنابر التي اعتلوها. والفنانون والموسيقيون يملأون الدنيا زعيقاً في الملاهي والافراح وحفلات طهور العيال، وسائقو التاكسي وراكبو الدراجات واصحاب المقاهي يثبتون حضورهم في المجتمع من خلال التنافس على رفع اصوات الراديو واجهزة التسجيل. ولان المتدينين جزء من هذا المجتمع وليسوا آتين من كوكب اخر، فقد اثبتوا حضورهم في الساحة من خلال تعلية مكبرات الصوت، وبرهنوا على انهم ليسوا اقل شأناً من غيرهم. وأنا اسوغ لنفسي تمديد المسألة اعتبرت ان رفع الأذان من خلال مكبر الصوت أهون وأخف وطأة من غيره. على الاقل لان الاذان للصلوات الخمس لا يستغرق اكثر من عشرين دقيقة في اليوم كله، في حين ان حفلات الضجيج الاخرى تستمر طوال النهار. واذا كنا بصدد ملهى او عرس، فالضجيج فيهما يمكن ان يستمر الى الساعات الاولى من صباح اليوم التالي. لست اشك في ان بعض الذين انتقدوا رفع الاذان من خلال مكبر الصوت فعلوه بحسن نية، وربما كانوا محقين في شكواهم. لكني أيضاً لا استطيع ان اتجاهل ان بين الناقدين أناسا تضيق صدورهم بالاذان والصلوات. ويعتبرونها من قبيل التزمت و "الاصولية"، وربما طربوا لما تبثه المكبرات الصادرة عن الملاهي والافراح واعياد الميلاد. وهم الذين قال عنهم القرآن انه اذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم. مع ذلك فانني لم اخذ مثل هذه الانتقادات على محمل الجد. واعتبرتها من قبيل المناوشات وعمليات التراشق الاعلامي والدعائي التي يتعرض لها المتدينون كما تتعرض لها الشعائر والطقوس في ظروف الرياح غير المواتية. ولكن حين ترجم ذلك الطنين والتناوش الى مشروع ايدته المراجع الدينية الرسمية (الاوقاف والازهر ومجمع البحوث)، فلم يعد هناك مبرر لتمرير الامر وغض الطرف عنه. ومن ثم حان أوان الكلام الجاد في الموضوع. (2) يفيدنا لا ريب ان نقوم بتحرير الموضوع اولاً، لكي نعرف عن اي شيء نتحدث. وقد وجدت ان ذلك امر ضروري، يعد الذي قرأته للبعض، ممن استخفوا بمسألة الاذان وقللوا من شأنه، حتى ادعوا ان اي تسجيل بصوت رخيم - لم يقترحوا صوت نانسي عجرم - يمكن ان يطرب المتدينين ويرطب جوانحهم، ويجذب الناس الى الصلاة في المساجد. ومنهم من قال ان المؤذن ليس الا مذيعاً لنشرة اخبار الصلوات على مدار اليوم، حيث لا يتجاوز دوره اعلام الناس بدخول الوقت. الامر ليس كذلك عند اهل العلم، فالاذان عبارة عن شعيرة من شعائر الصلاة، صحيح انه إخبار بدخول الوقت، لكنه عبادة وقربه الى الله أيضاً. وفي الاحاديث النبوية: (لو يعلم الناس ما في النداء (الاذان) والصف الاول ( من الاجر والثواب)، ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه (يقترعوا) لاستهموا - و.. المؤذن يستغفر له كل رطب ويابس، ويغفر له مدى صوته - و.. المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة). وثمة حديث اخر يقول ما معناه: (لو كان احدكم في جبل وليس معه سوى غنمه، ولا يسمع صوته احد، لوجب عليه ان يؤذن وان يقيم الصلاة). الامر اذن لا ينبغي الاقلال من شأنه او الاستهانة به. وحكاية الاكتفاء ببثه من خلال التسجيل ليست مقبولة بأي حال. وقد أحس الذين طرحوا المشروع الذي نحن بصدده، حين ذكروا ان الاذان "المركزي" سيكون حياً، وسيتم بواسطة ثلاثة من المؤذنين من ذوي الاصوات الجيدة. يتردد اذانهم في مختلف مساجد العاصمة، من خلال شبكة اتصال خاصة. وحين سألت مفتي مصر، الدكتور علي جمعة، عما اذا كان ذلك سيلغي وظيفة المؤذنين في المساجد (للعلم في القاهرة وحدها 35 الف مسجد) فإنه اجاب بالنفي، وقال: إن المؤذن سيتولى اقامة الصلاة، وله ان يؤذن للصلاة قبل ذلك ان شاء، ولكن دون استخدام مكبر الصوت. وقرأت في "الاهرام" تصريحاً بنفس المعنى لوزير الاوقاف الدكتور محمود زقزوق، الامر الذي خفف بصورة نسبية من حجم البلبلة والالتباس الذي شاع في اوساط المعنيين بالامر. ثمة خبرات محدودة عالجت مسألة الاذان بصور مختلفة. فالفكرة المطروحة في مصر طبقت في الاردن منذ ثلاثة عقود تقريباً، حين كان الدكتور عبد العزيز الخياط وزيراً للاوقاف. واغلب الظن ان الصغر النسبي لحجم الاردن، وبالتالي لعدد المساجد فيها، ساعد على انجاحها. (سكان الاردن حوالي اربعة ملايين نسمة، اي ربع سكان مدينة القاهرة) - في تركيا عولج الامر بصورة مغايرة، حيث لا يسمح باستخدام مكبرات الصوت خارج المساجد، ثم ان المؤذنين يخضعون لدورات ومسابقات تنظمها ادارة الشئون الدينية بالحكومة، بحيث يتم انتقاء افضل الاصوات لرفع الاذان. في التجربة الاسلامية المبكرة لم يكن تعدد المؤذنين مألوفاً. وقد ذكر المقريزي في خططه (ج3 ص151) ان المساجد بالمدينة كانت تسعة، غير مسجد رسول الله، كلهم يصلون بأذان بلال رضي الله عنه. وللجنة الفتوى بالازهر رأي في الموضوع نشر بمجلة الازهر عام 1939م (المجلد العاشر ص 445)، اشار الى ان اذان الجمعة على عهد رسول الله كان واحداً. ولما كثر المسلمون في المدينة وتباعدت دورهم زاد سيدنا عثمان اذاناً آخر، وجعله في موقع بطرف المدينة يدعى "الزوراء"، وقد اقره الصحابة على ذلك. (3) لعلك لاحظت انني قلت ان المعلومات التي توفرت عن المشروع الجديد خففت من البلبلة بصورة "نسبية"، الأمر الذي يعني أنها لم تبددها تماماً، ذلك ان ملابسات اطلاق الفكرة اثارت مخاوف كثيرين من اهل العلم وغيرهم من الغيورين على الشأن الديني. وقد سمعت من اكثر من واحد من العلماء قولهم: غدا يوحدون الخطبة في المساجد، ومن يدري فلربما فوجئنا بعد غد بمشروع يدعو الى ابطال صلاة الجمعة في المساجد لمنع التجمهر، والاكتفاء بالصلاة خلف المذياع! والأمر كذلك فلعلي لا ابالغ اذا قلت ان فكرة توحيد الاذان جانبها التوفيق من جوانب عدة. واذا سألتني لماذا، فعندي في ذلك عدة اسباب هي: @ ان الفكرة طرحت وسط ظروف يشيع فيها الحديث عن تدخلات وضغوط امريكية، استهدفت محاصرة النشاط الديني، واضعاف حالة التدين في العالم الاسلامي. من خلال التدخل في مناهج التعليم وبسط هيمنة الحكومات على المدارس الدينية وتصفية الانشطة الاسلامية، حتى ما تعلق منها بأعمال البر والاغاثة - وهذا المناخ دفع البعض إلى التساؤل عما اذا كان المشروع جزءاً من هذه الترتيبات ام لا - وهم معذورون في ذلك لا ريب. @ ان التدخلات الحكومية في شئون المساجد التي يفترض أنها من اهم مؤسسات "المجتمع المدني"، تعددت بصورة مقلقة. فمن فرض اشراف الحكومة عليها، واشتراط حصول الخطيب على رخصة خاصة، الى الامر باغلاق المساجد بعد كل صلاة، بحيث لا تفتح الا مع اقتراب موعد الصلاة التالية، الى تقرير مساجد بذاتها تقام فيها التراويح بقراءة جزء من القرآن كل يوم. ثم التدخل في تحديد مواعيد التهجد (في مسجد محمود بحي المهندسين في الجيزة كان المصلون يذهبون الى بيوتهم بعد التراويح للنوم لبعض الوقت، ثم يعودون للتهجد من الثانية الى الثالثة صباحاً، وبعده يتناولون السحور ثم يؤدون صلاة الفجر، ولكن التعليمات صدرت بتعديل موعد التهجد بحيث يصبح من منتصف الليل- الساعة 12 - الى الواحدة والنصف). لم يقف الامر عند التدخل في مواعيد التهجد، وإنما شمل أيضاً عملية الاعتكاف بالمساجد في الايام العشرة الاخيرة من رمضان، التي منعت في اغلب المساجد، واخضعت لضوابط ورقابة مشددة في مساجد اخرى. واخيراً ها هي الحكومة تتدخل في مسألة الاذان. @ ان هذه التدخلات تمثل ضغوطاً شديدة على المساجد، تثير الحيرة والبلبلة لدى المترددين عليها، ناهيك عن انها تقحم الحكومة فيما ليس من شأنها، وتحملها ما لا تحتمل، حيث تذهب بعيداً في تأميم المساجد في حين تسرع خطط خصخصة المشروعات الاقتصادية. وهذه الحيرة تتضاعف حين تقارن الضغوط التي تتعرض لها المساجد، مع الحريات الواسعة التي تتمتع بها "الخيام الرمضانية"، الحافلة بفقرات اللهو المباح وغير المباح. الامر الذي يدعو كثيرين الى التساؤل: من اولى بالمراقبة والرصد والتضييق؟. @ ان موضوع الازعاج الذي تسببه مكبرات الصوت المعلقة في المساجد، هو نوع من السلوك الاجتماعي الذي لا يعالج باجراءات السلطة ومراسيمها. ناهيك عن ان الحل المطروح يستحيل عملياً الالتزام بتنفيذه في 35 الف مسجد بالقاهرة وحدها. اذ كيف ستتمكن وزارة الاوقاف من متابعة حالة الاذان في ذلك العدد الكبير من المساجد، وهي العاجزة عن توفير ائمة وخطباء لها؟! @ ان التصدي الجاد لمشكلات المسجد، لا يدرج مسألة الاذان او مكبرات الصوت ضمن الاولويات، وانما يشير مباشرة الى الخطاب الموجه داخل المسجد من خلال ما يلقى فيه من دروس وخطب، والى دوره المفترض كمصدر للاشعاع الثقافي والحضاري واذكاء الوعي الديني. اما القفز فوق هذه الامور وتسليط الضوء على مسألة الاذان واشغال الناس بها، فهو يعد نوعاً من التبسيط والتسطيح، وتقديم المسائل الجانبية والفرعية على المهام الرئيسية والكلية. (4) هل المشروع ضد الاذان في المساجد ام انه ضد الضجيج في المجتمع المصري؟ لست اشك في انه ليس "ضد" الاذان، ولكن حين يكون التركيز على ما يحدثه الاذان من جلبة وضوضاء في المجتمع، ثم يتم السكوت عن مصادر الضوضاء الاخرى، فاننا نصبح بازاء مصدر آخر للبلبلة والتخوف. اذ من حق اي احد ان يتساءل: لماذا يمنع استخدام مكبر الصوت في المساجد، في حين يسمح به في الملاهي الليلية والافراح ومختلف المناسبات الاجتماعية الأخرى، علماً بأن الاصوات النشاز في تلك المجالات الاخرى لا تقل عنها بين المؤذنين. اننا اذا اعتبرنا ان استخدام مكبرات الصوت بطريقة عشوائية في المساجد بحسبانه احد مصادر "التلوث السمعي" في المجتمع، فلماذا لا تكون المواجهة مع الظاهرة كلها، وليس مع شق منها فقط؟ - ورغم ان الضجيج السائد يعكس ثقافة عامة في المجتمع، يتطلب علاجها جهداً ثقافياً وحضارياً مضاداً، الا انه اذا كان لا بد من اجراء حكومي في هذا الصدد، فلماذا لا يكون حظر مكبرات الصوت شاملاً. اعني لماذا لا يمنع تركيب سماعات تلك المكبرات خارج حدود الاماكن التي تستخدمها؛ بصرف النظر عما اذا كان المكان مسجداً أو ملهى ليلياً او منشأة سكنية. اما المفاجأة التي ادهشتني وانا اتحرى هذه النقطة، فهي ان ثمة قانوناً صادراً في مصر منذ عام 49م خاصاً بتنظيم مكبرات الصوت، ادخلت عليه عدة تعديلات آخرها سنة 82، اي منذ 22 عاماً. وهو ينص على حظر استعمال مكبرات الصوت الا بترخيص، ويشترط لاستخدامها ان يتم ذلك داخل مكان مغلق، والا يسبب ازعاجاً للاخرين. كما ينص على توقيع عقوبة الغرامة على المخالفين، مع مصادرة الاجهزة. أي أن امكانية التدخل الإجرائي متوفرة بين ايدينا، ولا ينقصها سوى شيء واحد هو: حكومة تتولى التنفيذ! وهو اكتشاف لا يملك المرء ازاءه الا ان ينفجر ضاحكاً، ولكنه ضحك كالبكاء!.