ما عدا المختصين والمتابعين لا يزال الكثير من الناس لا يفهمون أسباب الأحداث الدموية التي تحدث في دار فور . الكثير من الناس يخلطون بين مشكلة دار فور ومشكلة الجنوب بل ربما يعتقد الكثيرون أن دار فور هي أحد أقاليم الجنوب السوداني . دار فور من الناحية الجغرافية ليس لها علاقة بجنوب السودان. إقليم دار فور يقع غرب السودان على الحدود مع دولة تشاد . من حيث التركيبة السكانية يشكل إقليم دار فور مجتمعاً متجانساً نسبياً . الإسلام هو الدين السائد لكن إذا كان الانتماء السوداني ( الانتماء الوطني ) طاغياً فإن الانتماء الوجداني ( القائم على المشاعر القبلية والعرقية المتأصلة في هذا الإقليم ) هو وجدان غير مستقر . صحيح أن إقليم دار فور يعتبر وحتى انفجار الأزمة الأخيرة إقليماً شمالي الولاء وبخاصة التحالف مع الحكم المركزي في الخرطوم في الصراع الدائر مع الجنوب إلا أن السمات العرقية القائمة على الارتباط القبلي المرتبط باللون هو الذي يشكل ما يمكن تسميته بالولاء الأفريقي لسكان دار فور . هذا الانقسام الداخلي في الولاء الوجداني والقائم على التجاذب أو التنافر بين ما هو "عربي" وما هو "أفريقي" هو الذي قد يشكل خطراً على الولاء الوطني وهو الذي دعا كافة أطراف أطياف القوى السياسية بما فيها أحزاب المعارضة"للتفاهم" مع الحكومة المركزية ضد التدخلات الأجنبية . ومن أجل فهم دوافع الصراع المتأجج الآن وما يسببه هذا الصراع من مآس على مستوى حقوق الإنسان في الحياة والعيش بكرامة لابد من معرفة أن إقليم دار فور هو إقليم زراعي وأغلب السكان هم في الأصل من المزارعين الذين لاتزال مشاعر الاستقلالية الإقليمية عن المركز تشغل حيزاً مهماً في مشاعرهم . لقد كان لهذا الإقليم سلطه شبه مستقلة بزعامة السلطان علي دينار حتى الاستقلال ومع حلول الاستقلال أصبحت ولاية دار فور مثل أي ولاية أخرى من الولايات غير الجنوبية إلا أن نفوذ الزعامات القبلية بقي ذا تأثير واضح وبخاصة في العلاقات مع الأقاليم الأخرى ومع قبائل الجوار في تشاد حيث الروابط الأثنية المشتركة . ومع التقلبات السياسية وتوالي الحكومات المركزية المختلفة بقي سكان دار فور يبتعدون أو يقتربون من الحكم المركزي بقدر تقلص أو زيادة نفوذ الأحزاب الديموقراطية المعروفة مثل حزب الأمة الشيوعي والحزب الوطني الاتحادي . ولقد انعكس هذا الولاء السياسي سلباً على دار فور مع القطيعة التي يعيشها النظام المركزي مع هذه الأحزاب ، ومع ازدياد عزلة النظام واعتماده على سياسة عربية وإسلامية متشددة وافتقاره إلى وجود قاعدة شعبية في دار فور لهذه التوليفة الأيديولوجية بدأ الشرخ يزداد بين زعامات دار فور والحكومة المركزية . ومع تفاقم الأوضاع المعيشية لقبائل الشمال ( العربية ) وانتقالهم للبحث عن الرزق في مراعي دارفور الزراعية والتعاطف الحكومي مع هؤلاء النازحين إلى مناطق لا يوجد فيها تعاطف مع الحكومة بدأ هؤلاء النازحون يتصرفون وكأنهم يحظون بدعم الحكومة . لقد رأى سكان دار فور في حملات النزوح إليهم خطراً ديموجرافياً يهدد مجتمعهم المتماسك قبلياً كما رأوا في هؤلاء النازحين منافسين لهم ( في أرضهم ) ذلك ما يسميه زعماء دار فور بخلخلة التكوين البشري لمجتمع دار فور . ومع الاحتكاكات المتصاعدة بين سكان دار فور وهؤلاء النازحين "الغرباء" بدأ التباعد فالتباغض فالشروع في الدفاع عن النفس من الجانبين وصولاً إلى فرق الجانجويد من النازحين وحركات المعارضة من أهل دار فور . وعندما تفجرت الأزمة وبدأ الجانجويد "يتفوقون" في الأفراد والعتاد حدثت المأساة بما يمكن أن يسمى انتصاراً للنازحين على سكان دار فور الذين وجد حوالي مليون لاجئ منهم في معسكرات الإغاثة . ربما لم تشكل الحكومة المركزية فرق الجانجويد لكنها لا تستطيع إنكار دعمها لهم وعدم معالجة المشكلة منذ بدايتها بالطرق السلمية . اليوم ترفع الحكومة المركزية مثلها مثل أي نظام عربي شعار خطر التدخل الأجنبي والمؤامرات الغربية والصهيونية التي تستخدم ما يحدث في دار فور كذريعة للتآمر على الشعب السوداني وثرواته النفطية . المعالجة الرسمية المعلنة لمشكلة دار فور لا تشكل شذوذاً عن معالجات ما يسمى بالنظام العربي للأزمات التي تواجهها شعوب المنطقة وبخاصة أقلياتها على يد زعامات ما يمكن تسميته بالمعالجة السياسية التقليدية الجامدة . هذه السياسة القائمة على عدم رؤية الأسباب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية لأي مشكلة بل تركها تتفاقم حتى يموت الناس أو يجوعوا أو يتعرضوا للإهانة أو يشكلوا خطراً على الحكومة . عندما تصل الأمور إلى هذا الحد ويستفز الرأي العالمي شعوباً وحكومات ( بمن فيهم أصدقاء العرب والمسلمين ) عندها يبدأ التهييج الشعبوي ضد مؤامرة التدخل الأجنبي . في زيارته على رأس وفد من حزب الأمة بتاريخ 25/7/2004م يقول الصادق المهدي في إحدى خطبه هناك : (الأخوة في النظام نظروا للمسألة من ناحية الكسب السياسي واستبعدوا الآخرين وهذا غير مقبول ، هذه السياسة لعبت دوراً في الخلخلة الاجتماعية فلابد من الرجوع عن هذه السياسات بصورة منهجية على أساس أن السودان لجميع السودانيين والإسلام لجميع المسلمين ولا معنى لأن يحتكر أحد التحدث باسم السودان أو الإسلام) ثم يضيف (لقد دخلنا في فتنة لا تبقي ولا تذر بإيجاد معسكرين يعبأ فيهما الناس ويشحذون بمفاهيم أثنية بصرف النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة نتائجها خطيرة فالسياسة أصلاً هي أن تنقل عواطف معينة إلى عمل معين) . أما الباحث مجدي خليل فيكتب في جريدة الشرق الأوسط في 19/8/2004م (أن مشكلة دار فور هي مشكلة سياسية في الأساس وتتعلق بسوء توزيع الموارد والتنمية والاستعلاء الشمالي على الجنوب والغرب السوداني والإقصاء والتهميش والظلم والحل يكمن في حوار سياسي يمنح الأقاليم السودانية المختلفة حرية سياسية لا مركزية ويدعم التنمية العادلة والمشاركة والمساواة والمواطنة) . وعن موقف الحكومة وعلاقتها بعصابات الجانجويد يورد مجدي خليل تصريحا لموسى هلال أحد زعمائهم قائلاً:(نحن استنفرنا بأمر من الدولة وحركتنا كانت تحت أمر القيادة العسكرية) . كما يتجلى موقف الحكومة المركزية في الشعارات التي رفعها المتظاهرون مؤخراً في الخرطوم ومن بينها .. (إلى الجهاد في دارفور ) و.. (دارفور مقبرة الغزاة ) . بالمناسبة يسمى أهل دار فور في السودان بحفظة القرآن الكريم . أما الكاتب وحيد عبد المجيد فيرى أن مشكلة ما يسميه "بالنظام العربي" ومنهجه في التفكير والفعل حيث يجد أن "أزمة النظام العربي تتجاوز التأخر الشديد في التعاطي مع مأساة في بلد عضو فيه ثم العجز عن أداء دور يعوض جزئياً هذا التأخر وهذا القصور في الأداء لا ينتج عن كسل أو شلل بقدر ما يعود إلى مشكلة في منهج التفكير العربي وتقدير الموقف وطريقة النظر في الأمور عموماً وفي العلاقة مع الآخر خصوصاً " . لقد أصبح النظام المذكور فضلاً عن مشكلاته التاريخية المتواصلة أسير نظرة مفادها أن العرب مستهدفون طوال الوقت والمؤامرات تتوالى ضدهم .. الحياة في 22/8/2004م . الخلاصة أن مشكلة دار فور كان بالإمكان أن تكون مشكلة داخلية بحتة يجري حلها عبر فكر سياسي متجدد مهتم بحياة الناس وأوضاعهم كمواطنين متساوين قبل أن يجد نفسه نتيجة لمعالجته التقليدية الجامدة في وضع لا يحسد عليه يصل إلى درجة الاستجداء .